عرض مشاركة مفردة
غير مقروءة 28-09-2009, 11:46 AM   #5
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

الفصل الثاني: المجتمع المدني والجماعة المسيحية

يذكر الكاتب في بداية هذا الفصل، أن انهيار الإمبراطورية الرومانية والذي عزاه (Edward Gibbon) الى النصر الذي حققته البربرية والمسيحية، أدى الى ضعف الفهم الكلاسيكي للمجتمع المدني باعتباره جماعة منظمة سياسياً. وأنتج تفسخاً سياسيا، أصبح بعده من المستحيل ولمئات السنين التنظير في السياسة على الطريقة القديمة التي سبقت هذا التغيير.

كان اليونانيون والرومان رغم وثنيتهم قبل اعتناقهم المسيحية، يخرج من بينهم من يتناول الجانب السياسي بأخلاقية عالية تدعو للفضيلة والعدل. وعندما تم اعتناق الإمبراطور (قسطنطين) للمسيحية، تحولت القبائل والدويلات المحيطة بمركز الإمبراطورية الرومانية الى ما يشبه (الأمة المسيحية)، وأصبح التنظير في السياسة من قبل القصر مقرونا باعتقاد ديني مسيحي.


لم تكن المسيحية في بداياتها تهتم بأمور الدولة، باعتبارها قضايا دنيوية عابرة ستزول، هذا أدى الى تدفق النشاط القبائلي لقبائل الجرمان وغيرها من القبائل للتسابق على احتلال مكان قريب من المركز المسيحي، مما دفع برجال اللاهوت أن يبدءوا التفكير بالتنظير للدولة لإقامة مملكة (الرب) على الأرض.

الغرور، والإيمان، والدولة

(1)

في بداية القرن الخامس الميلادي، بدا الضعف يظهر على الإمبراطورية الرومانية، وتم اجتياح (القوطيين بقيادة ألارك) لروما. شاعت في تلك الفترة مقولات تحمل الديانة المسيحية باعتبارها مُستوْرَدٍ (شرقي) المسئولية عن هبوط الأداء السياسي وضعف الإمبراطورية. وظهر بعدها الحنين لفكر أرسطو وغيره.

ظهر بعد ثلاث سنوات من الاجتياح أي في عام 413م كتاب مصنف شهير لا زال يترك بصماته واضحة في العقائد الغربية السياسية، وهو (مدينة الله The City of God ) وقد كان من تأليف (أوغسطين) ولمن لا يعرف هذا الرجل، فقد كان أفلاطونياً محدثاً، وأسقفاً في نفس الوقت، وعالم لاهوت وقاضيا وجدلياً، وقد فكر في مسألة الروح والجسد، ورغم انبهاره بالأداء الإمبراطوري قبل المسيح عليه السلام أو قبل اعتبار الديانة المسيحية ديانة الدولة، فقد انبرى مدافعا عن المسيحية دون أن ينكر انبهاره بالتنظيم السياسي للدولة ما قبلها.

(2)

رد أوغسطين على القائلين بأن الكوارث التي حلت بروما نجمت عن الاستخفاف بالطقوس القديمة، بقوله: إن المسيحية لم تكن مسئولة عن سقوط روما، بل أن ضعف الإمبراطورية المتنصرة حديثاً جاء نتيجة تسامحها مع الوثنية والهرطقة والفسوق.

البشرية عند (أوغسطين) فاسدة فساداً كبيراً بحيث لا تستطيع أن تختط لنفسها قيما أخلاقية، وأن الجمال والأخلاق والفضائل كلها مستمدة من سجل حضور الله في الشؤون البشرية، وفهم المجتمع المدني الخاطئ يأتي من تمجيد الناس للعقل البشري وإمكانياته وابتعادهم عن الإيمان بالله.

كان لدى الإغريق والرومان فكرة مفادها أن أرضية السعادة البشرية تأسست بفعل القدرة على الكلام والتدبر، والعمل في المجتمع المدني المنظم سياسياً. أما أوغسطين فيقترح أن الإيمان والكتاب المقدس والكنيسة والمبادئ المسيحية هي الوحيدة التي يمكنها برأيه أن تضع أساساً للسياسة وتنظيم المجتمع المدني.

(3)

عند حديث أوغسطين عن روما، فإنه يقول: إن الله جعلها إمبراطورية جبارة (لعلةٍ ما!). وأن إنجازات أهلها لأنهم (أحبوا المجد بحماسة متوقدة، ورغبوا في العيش من أجله، ومن أجله لم يتوانوا عن التضحية بأنفسهم. وكانت كل رغبة مقموعة بشدة ولعهم بالمجد وحده دون سواه) كانت تلك اللهفة للثناء والرغبة في المجد إذاً، هما اللتين أنجزتا تلك المآثر العديدة الجديرة بالثناء*1

كانت الدنيوية الوثنية تتناقض بشكل صارخ مع الإمكانات التي فتحها حضور المسيح عليه السلام. بل يذهب أوغسطين الى أبعد من ذلك عندما اعتبر أن الشر والخير ابتدأتا مع ابني آدم (قابيل وهابيل). ومن هنا فقد انقسمت المدن الى مدن خير ومدن شر وبشكل سرمدي. فمدينة الشر تقوم بخدمة إبليس وشياطينه ومدينة الخير بخدمة الله وملائكته.

وفي مكان آخر من كتابه (مدينة الله) يقول أوجستين: (طبقاً لذلك، تأسست مدينتان بنوعين من الحب: المدينة الأرضية بحب الذات، حتى وإن كانت بمعصية الله، والمدينة السماوية، حتى وإن كانت باحتقار الذات، وبكلمة تمجد الأولى ذاتها، وتمجد الأخرى وتعظم الله، الشاهد على الضمير وتناجيه: [إلهي أنت مجدي، ورافع رأسي]، في الأولى يحكم الأمراء والأمم التي تخضع لهم بشهوة السلطان، وفي الثانية يخدم الأمراء والرعايا بعضهم بعضاً بالمحبة الخالصة)*2

(4)

سدد أوجستين ضربة الى صميم النزعة التفاؤلية (الفلسفية) الإغريقية والرومانية، في أن قوانينهم التي كانوا يزعمون أنها تحقق العدالة، قد أصابتهم بالغرور بأنهم حققوا مجدهم، فقادهم هذا الغرور الى العجز والانحطاط، وكان عليهم وعلى من يبكي على مجدهم المفقود أن يعلموا أن الخير والمجد هو من الله وحده، فحيث تكون هناك عبادة تليق بالرب تكون هناك أمة وبشر ومجتمع مدني حقيقي.

يقول أوجستين: (إني أقر بأنه كانت هناك جمهورية من نوع ما، وكان يديرها الرومان القدماء القدماء بصورة أفضل بكثير من النواب الرومان المحدثين [في العهد المسيحي]. غير أن الواقع هو أن العدالة الحق لن يكون لها وجود إلا في تلك الجمهورية التي يكون المسيح مؤسسها وحاكمها إذا ما اختار أي كان أن يدعوها جمهورية، وفي الحقيقة لا يمكننا إنكار أنها تمثل مصلحة البشر... كيف يتسنى للبشر أن يحققوا العدالة إذا كانوا يخدمون الشياطين الدنسة والأرواح الشريرة)*3

(5)

لقد شبه أوجستين الملوك والأمراء باللصوص، فقال: (ما الممالك، حين تغيب العدالة، غير سرقات كبرى؟ والعصابة نفسها ما هي إلا زمرة من البشر محكومة بسلطة أمير، وهي متكاتفة بموجب اتفاقية اتحاد، وأما الغنائم فيجري تقسيمها بموجب قانون تضعه العصابة نفسها)*4

استعان أوجستين بقصة تاريخية عن الإسكندر الكبير ، عندما قبض على قرصان وسأله عن دوافعه بالقرصنة واستيلائه على سفن الغير، أجابه القرصان بعجرفة (ما عنيته أنت بالاستيلاء على الأرض كلها؟ ولكني لأني أنفذ ذلك بسفينة صغيرة، أُسَمَى لصاً، بينما تنفذه أنت بأسطول ضخم، فتلقب إمبراطوراً).

(6)

بالنسبة للعقوبات والردع، انشغل أوجستين بوضع علاقة واضحة بين العقوبة ومن ينفذها ومن يشرعها ومدى فائدتها، فاعتبر أن العقوبة هي رحمة على المذنبين لكي يقابلوا ربهم يوم القيامة وهم طاهرين من كل ذنوبهم التي عاقبهم عليها من في الأرض من الذين انتدبهم الرب لذلك.

لكن من هم هؤلاء؟ إن أوجستين يطالب المؤمنين بالله من منظمات المجتمع المدني أن تلتف حول الكنيسة لتفرض قانون الله على الأرض بواسطة الدولة التي باركتها الكنيسة نفسها.

يتبع



هوامش: (من تهميش المؤلف)
Saint Augustine, The City of God, Translated by Marcus*1 Dods (New York: Random,1950) صفحة 159
*2ـ المصدر السابق ص 477
*3ـ نفس المصدر صفحة 699
*4ـ المصدر نفسه ص 112
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس