الموضوع: ساعة عمل
عرض مشاركة مفردة
غير مقروءة 06-09-2006, 12:49 PM   #34
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

جعفر المهاجر :

تختلف أسباب الهجرة من زمان لزمان و من مكان لمكان ، فمنها من يأتي لسبب أمني ، إذ يقتل من يهاجر أحدا و يخشى من نقمة ذويه أو ملاحقة القانون أو يكون معارضا ليس على دين أو عقيدة قومه ، فيخشى سلطة الأغلبية .. ومنهم من يهاجر طلبا للرزق أو العلم ، ومنهم من يهاجر لاحقا بمن يحب ، ومنهم من يهاجر حالما بغد أفضل .. الخ من تلك الأسباب ..

عندما كانت الهجرة في الماضي تصل الى مناطق يشترك ساكنوها مع المهاجر في الدين أو اللغة أو النسب ، فإن المهاجر لم يكن يحس بقسوة الغربة ، بل سرعان ما يندمج مع المكان الجديد وعندما يبعث لأهله برسالة ، فإنه يقول (نحن أهل العراق ) ، ولم يكن هو أصلا من العراق ، بل قد يكون آت من قرطبة أو القاهرة أو الخرطوم ، فيصبح يتكلم بلسان أهل العراق ، حتى لو مضى عليه عدة شهور ، وكذلك يفعل ابن العراق الذي انتقل الى تونس أو المغرب ، فكان الإحساس بسلاسة الانتماء الأدبي والاجتماعي يعوض سريعا عن قسوة غربة المكان .. وعندما يوقع باسمه لا ينسى ذكر مكان مولده وإقامته فيقول فلان العمواسي العراقي .. أي من ولد في عمواس (فلسطين ) ويقيم في العراق .

في القرن الثامن عشر ابتدأت موجات الهجرة ، لتصل أمريكا اللاتينية ، واستراليا و مناطق عديدة في العالم ، استطاع أبناء العرب المهاجرون أن يصلوا الى قمة السلطة في تلك البلاد كما في ( الأرجنتين وإندونيسيا و زنجبار و موزنبيق والكثير من البلدان ) ..

أما الهجرات التي حدثت في القرن العشرين ، فقد كان أصحابها ـ غالبيتهم ـ يعانوا من تمزق و ضياع في الانتماء ، فقد تطورت قوانين الهجرة ، حتى في البلدان العربية ، وأصبح المهاجر يعاني من عزلة بالتصنيف و محاصرة في الهوية ، فلا هو المندمج بواقع البلد الذي هاجر إليه ، بحيث يستطيع أن يفخر بإنجازاته ، ولا هو الباقي في بلاده ، يفرح لفرح أهلها و يتألم لآلامهم .

كان جعفر أحد طلبة كلية الهندسة الذين تركوا صفوف دراستهم و غادر الى الولايات المتحدة الأمريكية ليلتحق بأخواله الذين سبقوه قبل ثلاثين عاما .. فكان أحدهم مدرسا للغة الإنجليزية في بلاده ، وأشقاءه الأربعة قد غادروا في الستينات من القرن الماضي على دفعات خلال ثلاث سنوات ..

تفاجأ جعفر بأن أخواله الذين ورثوا عن أبيهم عقارات تبلغ فوق ثلاث ملايين دولار في بلدهم الأصلي ، ليسوا بتلك الحالة الاقتصادية التي تبرر لهم الهجرة ، فكان أحدهم يبيع الخمر في متجر بسيط ، ويعيش مع صديقة له ، في حين يمر على زوجته (ابنة عمه) مع أولادهما كل شهر مرة ، وكان كل أفراد العائلة قد تكيفوا مع الوضع الجديد ، فلا يتذمرون ولا ينتفضون لتغيير وضعهم البائس .. فكل فرد من العائلة له شأنه الذي لا يختلف كثيرا عن كبير العائلة !

أما الخال الأكبر ، فكان قد حفظ من الإسلام خاصية السماح بالزواج المتعدد فقط ، فقد تزوج ثلاث عشر زوجة كلهن عربيات ، وباستمرار كان على ذمته أربع نساء ، في حين كان وكيل لتوزيع الخمور في المدينة التي عاش بها نحو أربعين عاما قبل أن يعيدوا جثمانه الى بلاده التزاما بوصيته !

أما الخال الأوسط ، فقد كان في غربته لا يتأثر بمكان وجوده ، فلا فرق بين أمريكا وبوركينافاسو أو حتى قريته التي غادرها ، حتى لو أمضى قرنا كاملا ، فكان قبل موته يلتزم الصلاة ، وقد حول ما جمعه من أمريكا الى عقارات اشتراها من إخوانه و أبناء أعمامه ، كان شخصا غريبا ، يوافق على أي رأي يقال له ، ولا ينفذ أي طلب رغم إيحاءه بأنه قبله ، فكان المتذاكون يطرحون عليه مشاريع (كممول) فيضحك مقهقها حتى يتخيل من يراه بأنه ليس هناك فتحتان لعينيه ، حيث تنغلقان بشكل كامل .. فلو أراد أحد أن يستغل فترة القهقهة وينسحب من المكان ، فلن يحس عليه .. ولكنه لم ينفذ لأحد طلبا حتى توفاه الله .

أما الخال الأصغر فكان صامتا ، لا يستطيع أحد أن يصنف مشاعره ، هل هو فرح أم متضايق .. لقد بقي هو وأخويه معلم اللغة الإنجليزية و أخ آخر أصيب بالسرطان ، فترك عمله في بلده الأصلي وعاد الى أمريكا التي يحمل جنسيتها قبل عودته والتحاقه بعمل حكومي ، لينعم بالمعالجة المجانية ..

كان عندما يعود أحدهم من أمريكا ، يفتح بيته لعدة أسابيع فيأتيهم الزوار من أقاربهم ، ويحسدوهم الزوار على ما هم فيه ( من وجهة نظر الزوار ) .. وكان من السهل على أحدهم أن يضلل الزوار ، خصوصا عندما يجيب على سؤال موافقا فيقول ( يا ) بدل نعم ..

عندما سألت أحدهم ذات يوم عن جعفر ، ابتسم وقال : ذايح ، عجبا كيف لم ينس هذا المهاجر تلك الكلمة القبيحة خلال أربعين سنة ، فعندما ألححت عليه السؤال ، هل أكمل دراسة الهندسة ؟ أجاب بأنه لم يدرس ، بل ابتدأ بغسل الصحون في أحد المطاعم ، وهو الآن يعمل كسائق شحن بين سان فرانسيسكو ولوس أنجلوس .. فهززت رأسي قائلا في نفسي ( ثلثين الولد لخاله) .
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس