عرض مشاركة مفردة
غير مقروءة 09-04-2008, 05:42 PM   #3
السيد عبد الرازق
عضو مميز
 
تاريخ التّسجيل: Apr 2004
الإقامة: القاهرة -- مصر
المشاركات: 3,296
إفتراضي


وكان رامى يتعامل مع كتابة الأغنية على أنها مخاض حقيقى وعملية ولادة فعلية حيث كان يحمل فى جيبه ورقة وقلما رصاص ليسجل أفكاره وكان يكتب هذه الأفكار في أى مكان وكان يرفض تحويل هذه الأفكار إلى أشعار حتى تلح عليه وتنضج تماماً، وعند ذلك يدخل إلى حجرته ويفلقها ويحتضن وسادته. ويصف رامى حالته عندما يكون فى حالة كتابة فيقول (تشوفنى وأنا ألد أشعارى ما تعرفنيش.. أكتب مقطعا ثم يغيب منى وجدانى.. أستلقى على السرير متوجعاً.. أردد المقطع الذى ولدته بصوت الحداة الذين يرعون الغنم فى السهول.. ثم أبكى من الانفعال حتى يهتز جسدى.. لحظتها تهبط علىَّ كلمات المقطع التالى). فإلى هذا الحد كان يعانى شاعر الشباب فى كتابة أغنياته ولذلك أصبح بلا منازع عميد الأغنية المصرية والعربية. ولذلك لم يكن غريباً أن يحصل على جائزة الدولة التقديرية فى عام 1966 تقديراً لعطائه كشاعر غنائى وقد جاء فى تقرير ترشيحه لجائزة الدولة التقديرية (ولماكانت الأغنية المصرية قد مرت بها فى العهود الماضية فترة انحطاط فقد كان الأستاذ رامى أسبق الشعراء إلى حمل إمامة الأغنية بالاضطلاع بتهذيب ألفاظها والسمو بمعانيها ورفع مستواها مما أدى إلى النهضة التى بلغتها الأغنية العربية فى عهدنا الحاضر… والأستاذ رامى فى جميع إنتاجه الغزير لايقتصر على الناحية العاطفية وحدها بل يتناول الأهداف الوطنية ومن ذلك نشيد العلم ونشيد الجامعة وكثير من أناشيد الثورة).
جودت أن يعود لكتابة الشعر الفصيح فكتب قصيدة (أقبل الليل) التى غنتها أم كلثوم واستعرض فيها عضلاته الشعرية حيث كتب من عشرة أبحر شعرية مختلفة ورغم تميز هذه القصيدة إلا أنه كان يرى أن قصيدة (ذكريات) هى أجمل ما غنت أم كلثوم من أشعاره.

وإذا كانت العلاقة الفنية بين رامى وأم كلثوم تعد بحق (النموذج الأمثل) لما يجب أن تكون عليه العلاقة بين شاعر كبير ومطربة عظيمة إلا أن العلاقة العاطفية كانت شديدة التوتر بعد أن أصبحت تسير فى اتجاه واحد من رامى إلى أم كلثوم ولم يكن يخجل من إعلان حبه وسعادته بعذاب هذا الحب فكان يقول (تعلمت من تجاربى معها كيف أتجنب الشراك فلا أقع فيها.. فموقفى السلبى هو حصنى الحصين.. رغم أنى كنت أتعذب وهى محط أنظار وعواطف الكثيرين وعندما تملكنى اليأس من الارتباط بها قررت الزواج).

ولم يتزوج رامى إلا فى سن الثانية والأربعين والمفاجأة أن أم كلثوم غنت له فى حفل زفافه (اللى حبك يا هناه).. ورغم زواجه كان يردد دوما (إن علاقتى بأم كلثوم لم تكن حبا.. إنما كانت تقديسا.. ما كان بيننا كان أكثر من الحب). وحب رامى فيه عفة وليس فيه ابتذال وفيه وفاء وليس فيه غدر.. وفيه احترام وليس فيه شهوة.. فهو العاشق الذى يغضب فلا يحطم المعبد بل يقف خارج المعبد يتعبد فى المحبوب الذى أذاقه مرارة العذاب ونار الحرمان.. وكان يؤكد أن الحرمان هو أجمل ما فى الحب العذرى.. وقد وصف صالح جودت هذا الحب الغريب بين رامى وأم كلثوم قائلا (ليس حب رجل لامرأة.. فقد كان حبا إلهيا قدسيا.. زى حب الإغريق لآلهة الأوليمب.. أول رامى ما عرف أم كلثوم سنة 24 وهو يحس نحوها بنوع من الغيرة السامية.. نوع من الرغبة في الصيانة والحراسة).

وقد ارتضى رامى أن يصبح درويشا يدور فى فلك أم كلثوم الصوت والحبيبة فعندما يسمع صوت أم كلثوم يصاب بحالة (دروشة) ويصف نفسه قائلا (أبقى مذهول ومذهوب بى) ويغمض عينيه ويقول (العيون لها عقل ولسان والصب تفضحه عيونه).

وإذا كانت أم كلثوم المطربة قد انتصرت على أم كلثوم الإنسانة فرفضت رامى الحبيب لتحتفظ برامى الشاعر ولتجعل من حبه وقوداً يدفعه لكتابة أغنياته العظيمة. إلا أن عطايا أم كلثوم لرامى لم تكن بالشىء الهين فقد جعلت منه مستشارها الأول حيث تأخذ رأيه فى كل شىء يخصها وتعرض عليه الأغنيات التى يكتبها الآخرون وإذا كان رامى قد كتب ما يقرب من نصف أغنيات أم كلثوم فقد كتب لها بقية أغنياتها 52 شاعرا. كما جعلت أم كلثوم من رامى المستمع رقم واحد لها حيث كانت تحرص حتى رحيلها على أن يجلس فى كل حفلاتها فى المقعد رقم 8 بالصف الأول. كما صممت على أن يصحبها فى كل رحلاتها داخل مصر وخارج مصر بعد حرب 67 عندما أحيت مجموعة كبيرة من الحفلات لصالح المجهود الحربى. وفى المقابل لم يكن رامى يغضب من أى تعديلات تجريها أم كلثوم على كلمات أغانيه طالما أنها لا تغير فى الموضوع وطالما أنها تتم بالاتفاق. خاصة وأنه كان على يقين بأن أم كلثوم هى (ديوانه المسموع) .

وعندما رحلت أم كلثوم أصيب رامى بصدمة عنيفة هزت كيانه وأدخلته فى حالة انعدام الوزن واعتزل الناس وعاش وحيداً فى حجرته التى كان يطلق عليها دوماً (الصومعة) وعاش فى دوامة من التصوف والاكتئاب زاد من قسوتها إصابته بتصلب الشرايين والتهاب فى الكلى ورحيل أولاده إلى خارج مصر حيث سافر ابنه محمد إلى إنجلترا وابنه توحيد إلى أمريكا وابنته إلهام إلى ألمانيا.. ولم يكن يفرج عنه إلا بعض الأبيات الشعرية التى يكتبها يناجى فيها ربه مثل :

يا إلهى يا خالقى سبحانك

إن فى طاهر القلوب مكانك

جئت أسعى إلى رحابك أدعو

ولسانى مرتل قرآنك

ولم يتحدث رامى إلى الصحافة بعد رحيل أم كلثوم إلا مرات قليلة جدا حيث انتقد بعنف حال الأغنية حيث قال (موسيقانا الآن كرجل صعيدى بجلباب بلدى ولكنه يرتدى برنيطة أمريكانى والأغنية الآن كالبطيخة الماوى فيها مياه وكبيرة الحجم وليس لها طعم)، وقال أيضا (الأغنية فقدت الكلمة الحلوة والمعنى الجميل وأصبحت ألفاظها سوقية مكشوفة ومعانيها مبتذلة تافهة وخرجت عن إطار الروحانية وسقطت فى أوحال المادية الحسية).. فماذا لو امتد العمر برامى ليرى ما نعيش فيه من قصف متواصل وحرب ضروس للفضائيات الغنائية التى لا ترى فى الغناء إلا بعض (المشهيات الجنسية المكشوفة) وصدق رامى عندما قال (أغانى هذه الأيام سمك لبن تمر هندى).

وقبل أن ننهى هذه الوقفة مع شاعر الشباب أحمد رامى نؤكد على أنه من الظلم أن نحصر عطاءاته الإبداعية فى مجال الشعر والأغنية؛ فقد امتدت عطاءاته إلى عالم السينما والمسرح والترجمة. وبدأت علاقته بالسينما من خلال صديقه الموسيقار محمد عبد الوهاب الذى عرفه قبل أن يعرف أم كلثوم، وكان عبد الوهاب يرى أن رامى (أمير الأغنية) كما أن شوقى (أمير الشعراء) واستطاع رامى أن يجمع ما بين صداقة (القوتين العظميين) رغم كل ما بينهما من اختلافات.. فقد كتب كل أغنيات الأفلام الأربعة الأولى لعبد الوهاب إلا أغنيتين هما «النيل نجاشى» وكتبها أحمد شوقى و«جفنه علم الغزل» وكتبها بشارة الخورى. وبعد بداية تجربته السينمائية مع عبد الوهاب كتب قصة فيلمى أم كلثوم وداد ودنانير. كما قام بترجمة العديد من المسرحيات لوليم شيكسبير مثل هاملت - يوليوس قيصر - العاصفة - النسر الصغير - وقدم هذه المسرحيات لفرقتى يوسف وهبى وفاطمة رشدى كما ترجم أيضا «سبيل التاج» لفرانسوا كوبيه و(سميراميس) لبلاران و(شارلوت كوفارى) ليونارى و(جان دارك) لبارييه و(يهوديت) لبرتشتين و(أرنانى وماريون دى لورم) لفيكتور هوجو.

كما كتب رامى عدة مسرحيات من تأليفه وهى : إبنتى - حبابه - غرام الشعراء.

وفى النهاية فإنه من المستحيل أن نختصر تسعين عاما فى بضع وريقات، ولكننا نؤكد على قيمة وتفرد أحمد رامى ذلك الصوفى الذى ذاق فعرف فامتطى جواد البوح… وتألم فصرخ شعرا نورانيا مصفى والذى عاش طوال حياته فى حالة دائمة من (الوسطية) والذى كانت أغنياته (عصى موسى) التي التقمت الإباحية التى كانت فى الغناء قبله.. وفى ظل الإباحية الغنائية التى كادت أن تغرقنا فى الوقت الحالى لا نجد ما نعتصم به إلا أغنيات رامى….! ( منقول
السيد عبد الرازق غير متصل   الرد مع إقتباس