عرض مشاركة مفردة
غير مقروءة 28-10-2009, 10:02 PM   #435
المشرقي الإسلامي
أحمد محمد راشد
 
الصورة الرمزية لـ المشرقي الإسلامي
 
تاريخ التّسجيل: Nov 2003
الإقامة: مصر
المشاركات: 3,832
إفتراضي

أَدْبَرَ الْمَسَاءُ .. وَ انْتَصَفَ اللَّيْلُ
أَشْعَلْتُ الشُّمُوعَ ، فَأطْفَأتْهَا رِيحٌ كَانَتْ تَحْرِسُ ذَاكِرَةَ الْهَوَى
وَ مَابَيْنَ دُخَانٍ وَ غُيُومٍ هَمَسْتُ لذَاتِ الرِّيحِ :
أنْ سَلاَم اللهِ عَلَى حُبٍّ غُلَّ فِي أَفْوَاهِ العَاشِقِينْ .. !
تبدو البداية غامضة نوعًا ما ، وكأنما تصاحبها موسيقى رعب هادئة اعتمادًا على كلمات ذات دلالات وإيحاءاة مشعّة وتداخلات لونية مختلفة كالشمعة والريح والليل والدخان والغيوم وتأتي الجملة في المقطع السطر الأخير ذات وهج إيماني صوفي اعتمادًا على كلمة العاشقين وتأتي هذه الكلمة كأنها الطمأنة لشخص مختبئ في كنف ذاته لتخرجه من أسر ما هو فيه وتأتي هذه الكلمة كحلم يقظة يراوح المرء في قيلولته وهذا يجعل الصورة الحلمية بارزة بشكل جيد.ومن هنا يتوقع القارئ أن يكون الهوى من ذلك النوع الذي يتخذ قدسية خاصة تماشيًا مع العاشقين تلك الثيمة التي لعب عليها الصوفيون وكادوا يتفردون بها في فهم العديد من الخصائص الإنسانية الراقية.



نَجْمَةُ لَيْلٍ ، وَ قَمَرٌ بِلاَ ..
بَيْنَهُمَا مَسَافَةٌ تَصْطَكُّ الْجَنَادِلُ فِي قَلْبِهَا
وَحْيُ سَمَاءٍ ، عُنْفُوَانُ يَاسَمِينٍ وَ مَهَارِقُ الْمَطَرْ
عُلَّقَتْ عَلَى أهْدَابِ عَيْنَيْهَا
.. !
يستمر السرد لتقلبات الحالة وتغيرات النفس وفقًا لهذه الطبيعة مختلفة الأطوار والأشياء
والمعنية بكلمة عينيها سحابة تلك التي تشبه شكل العين لتكون المطر دموعها وكانت لفظة مهارق المطر آتية لتدل على أن هذا الإمطار كان بفعل فاعل .التفسير الحرفي يجعل القارئ يقف أمام مشهد إنزال الله المطر َ أما التفسير الماورائي للنص يجعل من المطر المهرق والأهداب للعين معنى هو البكاء في هذه اللحظة التي نزل فيها سلام الله على الحب الذي غل في أفواه العاشقين ، حيث إنهم محبون من نوع آخر لا يحبون شيئًا من متاع الدنيا والغرور الزائل وإنما حب لمُوجد هذه الحياة ومالكها .غير أن كلمة العاشقين لا تناسب مقام الوقار والتأدب في حب الله تعالى ، لذا على المتعاطين لهذه الأساليب الراقية الرجوع إلى دلالات الألفاظ ومذهب أهل السنة والجماعة في صفات الله سبحانه وتعالى .

قَمَرٌ بَكَى ، لَمْلَمَ الْهَوَى
جَفَى ، وَ انْتَفَى ثُمَّ بَكَى
ثُمَّ فِي لُجِّ الغُرْبَةِ هَوَى ...
حينما يكون القمر والنجمة بلا .. والغالب على الظن أنهما بلا عشاق ولا سمار حيث تكون النجمة هي السمو عن حاجات الدنيا وسفسافها والقمر هو ذلك المصدر الذي يمد النجم بالضياء والسمو . في هذه الجفوة عن أهل الأرض وجانبها المادي الموحِل والبكاء نجد لفظة لج الغربة تأتي لعتبر عن نتيجة السقوط كأنه انتقال إنسان من حالة خشوع واستغراق في الروحانية إلى الأرض والموقف ينسحب في الوصف عن الصلاة أو التسبيح أو شيء من ذلك.
هَوَى إلَى جَحِيمِ الأرْضِ وَ سَاكِنيهَا ..
وَ أبْعَدُ مِمّا تَظَنُّ نَجْمَةُ الوَخَى

.. أَرَاهُ يَغْتَسِلُ دَوْمًا بدُمُوعِ اللَّوْعَةِ وَ الرَّجَاء
حِينَ سَأَلْتُهُ نَفَى ، انْتَفَى ثُمَّ بَكَى ..
وتأتي الجملة انتفى ثم بكى لتعبر عن هذا الحوار الشجي بين الإنسان وذاته في لحظة طهر وصفاء. غير أن تعبير نجمة الوخى ليس مفهومًا بما فيه الكفاية وهذا يؤخذ على العمل إذ يغير من دلالة النجم بغير ما قرينة .
تَرَكْتُهُ يَحْتَضِنُ لَوْعَةَ الأسَى / الْهَوَى ، وَ هُوَ يَتْلُو عَلَى نَفْسِهِ ..
دَامَهَا الأنْفَاسُ
..
سَيبْقَى الدُّعَاءُ وَ دَيْمُومَةُ الوَفَاءِ عَبْرَ دُرُوبِ الرَّاحِلينَ

دُسْتُورَ حَيَاةٍ ، عَنْهُ القَلْبَ لَنْ يَحِيدْ ..
وَ لَنْ يَتعَرّى قَلْبِيَ مِنَ العَافِيَة وَ أنَا المُكْنَتِزُ بأنْفَاسِ طُهْرِهَا
رُغْمَ الهَجْرِ وَ الهَجِيرْ
تبدو الجزئية الأخيرة أكثر الأجزاء دفئًا وذلك من خلال التعبير عن الدعاء ، وقد يكون الدعاء دعاء في هذه الساعات من جوف الليل والتي يصل الطهر والصفاء والقرب من الله تعالى أعظم صوره وشكله حينما تفر النجمة (والتي هي تعبير عن سمو الإنسان والنفس الطيبة) من القسورة تلك الدنيا وضروبها ومتعها الزائلة ليبقى الدعاء وديمومة الوفاء ذلك الميراث الذي تركه الراحلون ممن اتخذوا الطاعات سلالم إلى نعيم أبدي ، وتظل النفس في رحلة رحلة الطهر تقاوم الهجر والهجير تلك الضروب من اللذات التي تحاول تعكير صفو الرحلة ، تلك النفس التي تبحث دومًا عن مستقر يدخلها عند لحظة الانطفاء إلى أول عتبات (النفس المطمئنة ).
للنص رؤية أخرى تختلف عن هذه الرؤية ، وأعاود النظر إليها لاحقًا بإذن الله .
النص حينما ينحو المنحى الصوفي فإنه يتخذ من الأشياء والرموز دلالات تتجاوز المعاني التقليدية وتفرض على القارئ أن يكون على علم غير قليل بتراث هذه الفئة ، مما يجعل التفسير ينحو مناحي ظنية أو استبطانية أكثر مما هي ذات طابع يمكن قياسه وملاحظته . والتعبير عن الجوانب الروحانية
في النصوص النثرية والأدبية عمومًا يعاني من وقعه بين طرفي النقيض إما المباشرة والتقريرية المفضية إلى فنون المقال أو الإغراق في الرمز بما يتنافى مع عمومية الأدب وخلوده وتجرده.
والنص الذي بين يدينا هو نص متقن يلعب على وتر الصورة الحلمية أي التي يلغب على الظن أنها سرد للحظات حلم أو حلم يقظة في حالات الغفوة الاستثنائية وقد استطاع المبدع بشكل كبير أن يحيط النص ببعض الذهنية ليعمِل القارئ ذهنه ويذهب به إلى ما وراء الدلالات اللفظية الاستثنائية متخطيًا بذلك اللغة التقليدية والمنطقية . وهذا التداخل في الأصوات والمشاهد والانتقال من حالة لحالة تتخلله بعض المفاتيح المعبرةعن الموقف والتي تقترب من الكشف المباشر للموقف حتى لا تتعقد الصورة في ذهن المتلقي ، لكن بالمقابل تأتي بعض الاختلافات في المعنى غير منطقية حتى باستخدام لغة الرمز مثل :
عَلْتُ الشُّمُوعَ ، فَأطْفَأتْهَا رِيحٌ كَانَتْ تَحْرِسُ ذَاكِرَةَ الْهَوَى
وَ مَابَيْنَ دُخَانٍ وَ غُيُومٍ هَمَسْتُ لذَاتِ الرِّيحِ :
أنْ سَلاَم اللهِ عَلَى حُبٍّ غُلَّ فِي أَفْوَاهِ العَاشِقِينْ
فالشموع قد تكون دلالة للضياء والطهر ، مما يستوجب أن يكون انطفاؤها انطفاء لهذه الحالة الوجدانية الروحانية العظيمة لكن الريح التي تطفئها هي حارسة لذاكرة الهوى أي أنها ريح طيبة ، فما معنى ذلك إلا أن يكون المراد أن أعاصير الهوى تهدأ بذكر الله ؟ تلك الأفواه العاشقة التي يشع ضوء الحب من صدق حروفها .هل يمكن القول بأن الشموع كانت استعارة عن الضوء الأرضي الاصطناعي الوهمي بينما النجمة هي تعبير عن هذه الحقيقة الإنسانية في السمو والرقي ؟
النص كان على درجة عالية من التكثيف ويحتاج إلى نظرات ورؤى متعددة للولوج إلى مبتغاه وإن كان وهو على هذه الدرجة من الرقي بحاجة إلى الاتزان في زوايا الارتفاع بالرمز والحالمية في الصورة . إلا أن رؤية العديد من الأنماط التعبيرية والرمزية والفلسفية من شأنه أن يعمق صلة القارئ بأدوات النقد بما يجعل النصوص على اختلاف مشاربها مادة لثقافة فكرية معرفية نقدية هائلة.
__________________
هذا هو رأيي الشخصي المتواضع وسبحان من تفرد بالكمال

***
تهانينا للأحرار أحفاد المختار




المشرقي الإسلامي غير متصل   الرد مع إقتباس