عرض مشاركة مفردة
غير مقروءة 08-01-2008, 10:28 PM   #3
السيد عبد الرازق
عضو مميز
 
تاريخ التّسجيل: Apr 2004
الإقامة: القاهرة -- مصر
المشاركات: 3,296
إفتراضي

[FRAME="13 70"]صـوت الشاعـر

حواس الشاعر المرتبطة بذاته، الملتقطة لخارج يتداخل مع الذات لينتج شعرا، ما هي بالضبط ؟ بصر، سمع، شم، إحساس شعور أم ماذا ؟ حالات تولد حالات وتتولد عن أخرى، أرى أسمع أشم أرتعش، أطرب أحزن أفكر وقد لا أفكر، وعي يختلط بلا وعي. البصر قد يولد الدهشة، والبصيرة تؤدي إلى التأمل. السمع يرتبط بالصوت، الصوت ليس بالضرورة موسيقى متناغمة. صوت الكائنات طويل عريض متباين الانطلاق والامتداد، ابتداءا من دبيب النملة إلى آه لسعة الزنبور، إلى أصوات الرعد وقنابل الأحلاف والأسلاف الجاثمين على خرائط القرارات، الشادين على أزرار الفضائح السرية المدمرة بشذوذها المتكتم …أصوات وأصوات. أصوات مارة متجولون، مطاردون بالوقت وأنباء الوقت، أصوات تلتقط بميكروفوناتها أوامر، توضيحات، طمأنات، تهديدات. أصوات من الأرض إلى الفضائيات كلها تُلتقط فتذوب في صدر الشاعر، وقد تجرح حلقه فتحول صوته إلى نباح وكلامه إلى صراخ.

الصوت مذكر، سواء ارتبط بشاعر أو شاعرة؛ إلا أنه قد يصير مؤنثا في بعض الحالات يقول صاحب اللسان: " الصوت: الجرْس، معروف، مذكر… "يؤنث إذا أريد به " الضوضاء والجلبة، على معنى الصيحة أو الاستغاثة…"[1].

ما هو منطق الصوت ؟ " الأصوات نوعان حيوانية وغير حيوانية ، وغير الحيوانية أيضا نوعان: طبيعية وآلية، فالطبيعة هي كصوت الحجر والحديد والخشب والرعد وسائر الأجسام التي لا روح فيها من الجمادات، والآلية كصوت الطبل والبوق والزمر والأوتار وما شاكلها . والحيوانية نوعان : منطقية وغير منطقية. فغير المنطقية هي أصوات سائر الحيوانات الغير الناطقة، وأما الناطقة فهي أصوات الناس وهي نوعان: دالة وغير دالة، فغير الدالة كالضحك والبكاء والصياح، وبالجملة كل صوت لا هجاء له، وأما الدالة فهي الكلام والأقاويل التي لها هجاء. وكل هذه الأصوات إنما هي قرع يحدث في الهواء من تصادم الأجرام…. [2]

الشاعر يُسمع صوته بالصراخ، بالمنبر، بحضور لقاءات شعرية. تحوُّلٌ وتداخلٌ بين التذكير والتأنيث، بين الخطابة والاستجداء.صوت محمود درويش جحيمي صاعد من هاوية الذات، يرتبط بالأذن العربية، بل يُشكِّلها؛ ويعيد طبعها بطابعه شعرا وكلاما حتى بدون ميكروفون. صوت نزار قباني ربيعي نازل يؤدي إلى ترنح الأجساد الصغيرة، ويؤججها ببلاغة واضحة فاضحة حين ترتطم بالأسماع تحدث ارتعاشة في الأسفل أكثر من أية منطقة أخرى.صوت أحمد المجاطي الخجول وهو ينشد قصيدة الدار البيضاء بحروفها المبحوحة، يثير الرغبة في التأمل والشرود إلى أقصى حالات التفرد والتوحد مع الذات. صوت محمد بنيس منكسر مائل جهة اليسار قليلا، أَنَوِي، ملتو كالتواء "سبع لَوْيات [3]" المقابل لجامعة القرويين أقدم جامعة في الدنيا. صوت بابلو نيرودا غير وجه التاريخ، صوت محارب في أول الصفوف، أوقف حركات وحرك أخرى في اتجاه التحرر.

لكل شاعر صوته المرتبط به، حاسة تخرج وتدخل لتشكل صوت جماعيا فماذا لو اجتمعت كل الأصوات لتكون جوقة ؟ تزاحم الأصوات يؤدي إلى النشاز، أو إلى الهرج المنظم إلا في الشعر. لو قرأنا قصيدة للشاعر المغربي أحمد بلبداوي بتضميناتها العبرية البارزة،بصدى صوت أدونيس ونكهته الشرقية المتميزة فما الذي سيحدث؟ صوت يمتزج بصوت. الصوت المادي ليس بالضرورة صوت الشعر. صوت الشاعر هو صوت الشعر، بصمة تؤثر على الأذن الجمعية، وتشكلها نارا أو نورا أوهما معا حسب ظرف التلقي. امتزاج بين المشرق والمغرب من أجل تأكيد المطرب.

نقرأ قصيدة للحطيئة أو ابن الرومي ونتخيل صوتها انطلاقا من المسبقات التي أسسها تاريخ الشعر العربي بكل الوصايات التي مورست عليه من طرف المؤرخين السياسيين والمتحكمين في مسار القول (الشعري) وصولا إلى أمزجة ما، في حقب ما، لظروف ما ندعو إلى إعادة النظر في طريقة كتابة تاريخها الآن. أصوات الأحياء تؤثر على أصوات الأموات، والكبار يلغون الصغار، والسياسيون يلغون الأقل اهتماما بالسياسة .

ما هو صوت الشعر الشعبي؟ الشعر الممتد إلى كل المسام بامتياز بنغمات تميل إلى الغناء أكثر من ميلها للشعر. والشعر ليس هو الغناء بالضرورة و" كل ضرب من الغناء صوت" كم يورد ابن منظور. فنحن: "

بالصوت نتكلم

بالصوت نغني

أن نتكلم ليس هو أن نغني

بإمكان الصوت أن يغني كلمات

لا يمكن للصوت أن يتكلم الأغنية

الصوت الذي يتكلم الأغنية يتكلم كلمات الأغنية

لا يحتاج الصوت إلى الأغنية هنا

صوت غريب ذاك الذي يتكلم كلمات أغنية

إذا أخذت في تكلم كلمات أغنية دون غناء يبدو أنني أقول شعرا

الصوت الذي يتكلم كلمات أغنية يقول بالفعل شعرا " [4]

فالصوت هو غير الكلام، الكلام صوت بحروف مقطعية دالة على معان مفهومة من مخارج مختلفة. وأبعد مخارج الحروف أقصى الحلق وهو ما يلي أعلى الصدر. والصوت من الجسم في الرنة بيت الهواء [5]

صوت المرحوم "العربي باطما"[6] هو صوت شعري بري يحفر في الذات من طبلة الأذن إلى أسفل أظافر القدمين. صوت شعري جارح. صوت أحمد فؤاد نجم صوت ممتد في تفاصيل الجسد العربي ناري، ملتهب، مرتبط بالنار والاشتعال.صوت وفاء العمراني الهادئ قليلا وصوت مليكة العاصمي براءاتها المخلخلة المبحوحة .أصوات حاضرة باستمرار، نسمعها كلما قرأنا نصا، صوت الشاعر يحضر كلما حضر الشعر كلما فسح له المجال. هل يمكن للنص أن يقول صوته دون مادية حنجرة الشاعر؟

إذا كان صوت المتنبي هو الصوت الأكثر امتدادا، وربما أولية أيضا،على امتداد الشعر العربي القديم والحداثي أيضا فما هي ملامح أصوات شعرنا الآن؟ يُقرأ الصوت كما يُقرأ النص، يتشكل بالممارسة فيكتسب خلوده من التصاقه بالأذن ويكتسب بالتالي أحاديته وانفراده الذي لا يشبهه فيه غبره.

قد تتناسخ أصوات الشعراء، ولكنها حين تفصل بين الأصل والتابع تؤدي إلى الفضيحة الصوت السارق ليس أصيلا وبالتالي فإن مآله الفناء لا الخلود. حين أتخيل صور نص شعري وأنا أقرؤه فد أتخيل معه وجه الشاعر وملامحه ، فهل أتخيل صوت النص ؟ الصورة ـ عيانية كانت أو متخيلة ـ مرتبطة بالرؤيا أو الرؤية ، والصوت يرتبط بالرؤياوالمتخيل أكثر من ارتباطه بالرؤية . حين نستأنس لصوت شاعر :أدونيس فإنه يسكننا في كل نص نقرؤه له، ولا يكاد يفارقنا . الصوت ملتصق بالصائت وهو جزء من النص ومن الشعر ، لايكاد يفارقهما . حتى في أرقى النصوص بهاء يطالب القارئ بإجادة القراءة وتحسين الصوت ، ففي الحديث: " زينوا القرآن بأصواتكم"[7] .

من الأصوات الرطب واليابس، ومنها الواضح والغامض، ومنها الواقف والنازل. والصوت وسيلة تمتزج بغايتها دون فصل. كلما ازداد الشعر خلودا كلما اكتسى الصوت طعما ورائحة خاصة، وإحساسا نحسه مع كل ارتعاش، مع كل ذبذبة، ومع كل إلغاء وإقصاء أيضا.

الصراخ الداخلي انتحار للشعر، الصوت كالشعر قدرة على البوح، على تثبيت القدم في المكان المناسب دون إتاوات، دون استجداء، دون ولاء….

الصوت ليس شيخا ليكون له مريدون، إنه القدرة على تحمل الألم في حالتي الحزن والفرح، لأن الفاصل دقيق وواه بينهما لدى الشاعر. وهو القدرة على الإسماع انطلاقا من القدرة على الإنصات لأصوات الريح، لدندنات الحوذي، لهدير الأرصفة، لأمواج العصافير وهي تعود لأوكارها كل مساء .

حين تنقلب واو الصوت ياء يتحول الجرْس إلى شهرة ،" فالصيت الذكر؛ يقال ذهب صيته في الناس أي ذكره وفي الحديث : ما من عبد إلا له صيت في السماء أي ذكر وشهرة وعرفان"[8]. صيت قد بكون خيرا أو شرا تبعا لشكل الغواية ودرجتها عند كل شاعر. وتبعا لقيمة الصائت إذ " إن أنكر الأصوات لصوت الحمير "[9]






--------------------------------------------------------------------------------

[1][1] ابن منظور : لسان العرب المحيط مادة ظلل

[2] رسائل إخوان الصفا : دار صادر بيروت، 1ج، ص: 127-188

[3] حي معروف بفاس العتيقة يشتمل على سبعة انعراجات ومن تم أنت التسمية

[4] Jaques Durras. Nommer Namur,in Poésie d’aujourd’hui à voix haute ORPHEE STUDIO , Poésie/Gallimard 1999 p 1240

[5] رسائل اخوان الصفا : در صادر بيروت ج 3، ص 114

[6] شاعر وفنان مغربي وأهم صوت في مجموعة ناس الغيوان الفنية

[7] النسائي في كتاب الافتتاح، وأبو داوود في كتاب الصلاة

[8] ابن منظور : المرجع نفسه مادة صوت

[9] سورة : لقمان الآية : 19
[/FRAME]
السيد عبد الرازق غير متصل   الرد مع إقتباس