عرض مشاركة مفردة
غير مقروءة 08-01-2008, 10:34 PM   #5
السيد عبد الرازق
عضو مميز
 
تاريخ التّسجيل: Apr 2004
الإقامة: القاهرة -- مصر
المشاركات: 3,296
إفتراضي

[FRAME="13 70"]بيـان شعـري

الخـواء والفراغ في الشعـر المغربي الآن



سيدي البياض، أيها الوقح، كم من الإغلاق مارست، أنت موسوس بالنظافة ولا تملك فرشاة أسنان، لا تحب الاتساخ إلا في الانهيار الكبير…لا علاقة لك بالوقت، وتحب التاريخ وتلك مأساة وقاحتك، تحب الأضداد المتساوية والمتفاوتة والمتموجة، وتستسلم أحيانا. لم لا تستسلم الآن بأضدادك، أنت تحب الأضداد .

لعبة البياض والسواد ناعورة بطية تجري بالماء تارة وبالدم أخرى، وتارة تتوقف نهائيا. السواد بوتقة تؤلة أفاعيلها، وتحضن أوهامها كقطة ولود. وحين الرج، يزدهر المعنى فيها بأشكال بدائية يتيمة في حركتها ، محتشمة تطأ خطوتها الحالية الخطوات السابقة، وتبتلعها بفم ثعباني له بطن حوت وصفير قلاع منسية، متعرشة على الذوات الصغيرة، والأكثر صغرا إلى اللامنتهى، القول والفعل والحركة والانزواء، تضاريس تحبل كل يوم، تتناسل.. كتابة… كتابات…شعر.

للفجيعة وتعليمها وتعلمها بعد رمزي كاسح، يوقع لحب الحياة، والشعر وحده يقدر على خلخلة الهزائم، وإحلال الأحلام مكانها وتحريكها بألوان تتعدى المخلوق إلى الخلق نفسه.

إبداع الفجيعة رؤية، رؤيا تنبطح، تتلذذ بالسياط الموقعة سوادا على بياضها، وما أوحشنا حين تنجلي الغمة، ما أفقرنا في خواء يستجدي أكفانه، يجمع بها شتات أسماله، ويبحث بعد ذلك على قبر يأويه. بعد ذلك بكثير.

الخواء غير الفراغ. الخواء خواء، والفراغ هبة تندمل بمراثيها حين يرسو طين التراكم على جنباتها. بالفراغ يزدهر الامتلاء، ليولد فراغا آخر يمتلئ، وهكذا…

الخواء عدم له معنى، والفراغ معنى لا عدمية له. الفراغ تأمل يوشوش على الذات من أسفلها إلى أعاليها. خيط دخاني يخرج من المسام ليعود إلى عيونها المثقلة بالنظر الأعمى. إشراق مهروق على أسفل جنة النسيان. نبش للتخلخل. الفراغ امرأة مستعصية على البوح، وتلك مكامن اللذة فيها. هدوء في الزحمة. إثارة في أوج الانزواء. الفراغ حركة والخواء توقف.

لو توقفت هذه الريشة الآن، لفاضت الضلوع بخوائها، ولتحول الخواء إلى فراغ مملوء بالدخان الكثيف، الكثيف الذي قد ينجلي عن مخلوق هائج، أو طائش، أو وديع، لكنه يرفض الاستقامة والانضباط والأحادية المطلقة. ظن يتناسل في يقين.

بالظن تتأسس الكتابة الجديدة وبه ومنه تمتح، وإليه تنساب مسترسلة، تتدرج عارية الخد تارة ملثمة، مقنعة أخرى، ولكنها هامة في تشابهها.



القصيدة لغة وعالم، أوهي لحظة تتموج لتشكل ملامح الزمان والمكان في هيأة لغة. باللغة تصعد القصيدة منحدرات اللغة نحو أصلها. أصل اللغة فراغاتها، والفراغ هو ما يعمل أهل العلم الحديث للإمساك به عبر التقطيع والعزل والتشريح الصوتي والدلالي. ووحده الشاعر يسكن هذا الفراغ وحدسه وهو يرسو باللغة في أفق العالم. وحده الشعر يجهد الفراغ داخل جهد الفراغ، وبه (أي الفراغ ) يسمو أو يتجاور مع كل جيرانه الممتلئين بالمادة ( رسم–نحت … ).

للشمس ثقوبها وإلا لما أرسلت أشعتها، وللغة ثقوبها وإلا لما فاضت وسالت بالاصطلاح والاشتقاق الواعيين. ليست الثقوب جوفاء، بل هي عيون الفراغ. ولذلك سيكون الشاعر رائيا من حيث لا تتسع الرؤية للوغوس اللغة الواعية.

من ثقوب شمس اللغة وخواءات تأسيساتها الرمزية، ينشئ الشاعر لغة القصيدة بوصفها فراغا. ولأن الفراغ وطن أصيل للإيقاع الأصلي، فإن زواج كلام القصيدة بموسيقى الشعر، زواج لصفير العالم وهو يعبر ثقوب الشمس، بنفس الكلام، وهو يجمع أديمه ليشتته على زوايا الكون الأربعة. الشاعر ليس رائيا فقط ولكنه منصت، ولأنه كذلك، فهو مثقل بأوزان وإيقاعات الصفير الأصلي الذي ينشد الفراغ/ اللغة، وينشرها في أفق العالم.

الشعر شعر ولو كان تجليه نثرا، وموسيقى الشعر نَفَسُ الفراغ، والنَّفَسُ لا كأس ولا ميزان يوزن به سوى النًّفس. للنَّفَس صلة بالطول والقصر، بالكتابة والامتداد ، بالاقتصاد والقصد.وفي كل هذه التجليات، يظل النفس نفسا، ولو كان وراءه روح السماء الخالدة، أو تفاصيل اليومي المسماة عابرة. ليس النفس شيئا آخر غير الجهد الذي يبذله الفراغ كي تمتلئ عيونه بالعالم. قد يمدد الجهد / النفس كلام القصيدة حتى تغطي أسوار الكعبة وتضاعفها، وقد يمدد الكلمة ليجعلها امتداد مكانيا للحروف، مثلما قد يمدد الحروف ليكشف عن عرائها الأصلي. وقد يمدد النقط، وكأنه يرسم هندسة الكون الأصلية. وفي كل هذا، يظل النَّفَس نَفَساً، والقصيدة قصيدة، والشاعر شاعرا، لا ساحرا، ولا كاهنا، أو زعيما…

عمود الشعر لثامه، والتفعلة قناعة، إذ لا فرق بين الشكل وتجلياته من حيث القيمة لالتصاق أحدهما بالآخر حد الموت. وقتل الجدية ظن قد يصير يقينا، وهنا تكمن المفارقة بين الشيء وتجلياته.

ليس الشاعر رائيا ومنصتا فقط، بل كاتبا كذلك. وموسيقى القصيدة لم تعد وليدة الإنشاء والترتيل فقط، بل أضحت وليدة رسم الحرف ونظام الأشطر/ الأسطر كذلك. ليس الزمان والصوت من ينشدان صفير الفراغ، بل المكان والحرف المنقوط كذلك. لذلك ابتعدت القصيدة عن هواتف معبد ديلفس، لتعلن جسدها في علامات الوقف، قرب أو بعد الحروف، وفي سواد أو بياض المكان .

التبسيطية مقام شاق قد يتطلب سيرا أشق في اتجاه تفاصيل تستعصي على العد، بخارج وداخل قد يغير حساباته في كل لحظة، وفي كل اتجاه. خلخلة الجاهز هو خلخلة لليومي، تساهم اللغة بكل أبعادها في تثبيته، وتثبيت المتخلخل قد يصير يقينا يلغي الظن ويحدث شرخا في فهم الشعر والقصيدة والاقتصاد والقص، وتعميم الكثافة بنمطية ترفض الكتابة الحداثية الدخول فيها، لكونها ترفض التصنيف والتبويب، بقدر رفضها الانتماء للجد الواحد، المتوحد في ذاته فقط، المنسلخ عن سوى ذاته المتقوقعة في أنا تتوهم الآخر جزءا منها… في الواحد تعدد، ولكن تضخمه بوح سلطاني يجلد أطرافه مع كل إشارة أو بوح…

القصد. الاقتصاد. التكثيف. ثوب يلبس الظن، يخلخل هام اليقين بوعي أو بلا وعي، لتأسيس هوامش جديدة، بأصوات جديدة أخرى، بقراءات أخرى، وبتأويل آخر.

على الشعراء أن يحفظوا شعر أجدادهم، لأنهم بذلك يعلنون خواءهم، وعليهم بعد ذلك أن ينسوه كي يلجوا الفراغ. النسيان فراغ، لأنه بهذا الإفراغ يجنب القصيدة الخواء. للخواء أسماء وصفات عديدة، لكن الفراغ اسم القصد والعمد.

أن تقصد النسيان، فهذا ما يجعل القصيدة ممكنة، وأن تعمد الفراغ، فهذا ما يولد الخواء. النسيان هو ما يجعل القصيدة اقتصادا وتكثيفا، وما يفصل تجاور الاستعارات عن الصورة الشعرية، وما يجعل القديم متجددا، لا مسيطرا، والقصيدة حرية، والشاعر طفلا.

بين قلب الطفل وقلب الشاعر متاهة تفصل الوعي عن لاوعيه. ومن حزن كليهما ينشأ الفراغ، فيأتي الكلام، وتنشأ القصيدة . قلب الطفل يمتلك العالم – ولا نقول عقله- يركبه بطريقته الخاصة، يثور عليه تارة ويحضنه أخرى، يبكي من ضوضائه ويصرخ في فراغه. بفراغه يلعب، وفيه يحلم استنادا إلى المرئي، وتبعا للمقاييس الأرضية التي ينشأ فيها. لا يستطيع الطفل قيادة قطاره إلا خارج استواء الخطين الحديديين…

للشاعر أيضا نفس الأحلام، ونفس السير، لنفس الفراغ، ومن نفس المتاهة. والفاصل هو الاستناد إلى الوعي انطلاقا من اللاوعي. يقود الشاعر الحداثي قطاره- وقد يتركه يسير لوحده أحيانا- خارج القضبان، ولكنه رغم ذلك يسير، وقد يصل بسرعة أكبر لتحلله من القيود،قيود الشعر، وجلابيبه المتشابهة. الطفل يحب الفراغ، فيه يلعب ويحلم ويبني عالمه. والشاعر يحب التفرغ لفراغه، ولكونه المحج الذي سيجعله قابضا على الريح، مدغدغا شفاه الماء، ممتطيا رزقه السماء، مشوشا على ضوضاء البحر وهدوئه أيضا. مشاكسا، مغايرا، مختلفا باختصار.

كل كتابة مختلفة تحدث الدهشة حين تستند إلى الفراغ، لكنها قد تحدث الغصة أو التقزز أحيانا إذا استندت إلى الخواء. فقد يمتلئ الكأس بالخواء رغم كونه فارغا، لكنه سيظل فارغا ينتظر تسيير وتأطير تفرغه هذا…

أين نضع المشهد الشعري الآني – الراهن- داخل كل هذا؟ ما هي الحدود الفاصلة بين الفراغ والخواء فيه؟ هل يتفرغ شعراؤنا للحسم بين الفراغ والخواء في قصائدهم بما فيه الكفاية؟ كيف يحضر الوعي في تهدئة لاوعي الشاعر؟ هل استطاعت القصيدة المغربية الحالية، وحتى العربية أحيانا، بكثافتها وقصديتها واقتصادها المشوش والمدهش أحيانا أن تطأ الأرض بالارتفاع عنها قليلا؟

لا نريد أجوبة جاهزة ، بقدر ما نريد مزيدا من الأسئلة في هذا الاتجاه.



نور الدين الزاهي أحمد العمراوي

[/FRAME]
السيد عبد الرازق غير متصل   الرد مع إقتباس