عرض مشاركة مفردة
غير مقروءة 16-03-2010, 06:01 PM   #45
عصام الدين
عضو جديد
 
تاريخ التّسجيل: Dec 2000
المشاركات: 830
إفتراضي

تتمة..


نحو فقه جديد


لا يمكن قراءة مشروع "نحو فقه جديد" الذي أنجزه جمال البنا في ثلاثة أجزاء كاملة إلا في إطار علاقته بالمنظومة السلفية التي كانت وما زالت القاعدة الأساسية لمجمل حركات وتيارات الإحياء الإسلامي في القرن العشرين، وعلى رأسها الإخوان المسلمون.

في مشروعه "نحو فقه جديد" ينقض جمال البنا عرى السلفية عروة عروة، فيخوض معها نزالا مباشرا باعتبارها مرادفا للتخلف الذي وصل به شقيقه حسن البنا -ومن بعده تلامذته الغزالي والقرضاوي- إلى أقصى حدود المرونة والانفتاح، ولم يعد يتبقى لمجدد بعدهم سوى خرق السقف والخروج منها تماما، وهو يرى في نفسه الجرأة على تجديد يخرق السقف ويجاوز كل الحدود.

وأول ما يفعله جمال البنا -في مشروعه الذي يقدمه كثورة شاملة على الفقه الإسلامي المستقر- أن يعيد تحديد مصادر الفقه الجديد ابتداء؛ فيستبعد الإجماع الذي يراه خرافة لا يمكن أن تتحقق، معتمدا على ما نسب من إنكار الإمام أحمد بن حنبل له وما أثاره الإمام الشافعي حوله من شكوك. ويعيد تعريف الاجتهاد بغير صورته المعروفة التي هي- في رأيه- تقليدية وليست سوى شكل من أشكال القياس ينحصر في اتحاد العلة ويخلو من الجهد العقلي الخلاق، في حين يراه هو اجتهادا مطلقا بلا قيد كما يفهمه من حديث معاذ بن جبل عن الاجتهاد "أجتهد رأيي ولا آلو ".. ثم يستبعد بقية المصادر الأخرى الفرعية للفقه مثل سد الذرائع الذي اعتمده الحنابلة حيث يراه عامل حجر وتضييق وعنت.. وينتهي به الحال إلى الاقتصار على النصوص الدينية فقط مصدرا رئيسيا للفقه.

وهو حين يتحدث عن النص يعيد تعريفه؛ فيبدأ بحصره في القرآن ثم السنة "الصحيحة"، والسنة الصحيحة هي السنة التي ثبتت عنده هو وبمعايير جديدة وليست عند أهل الحديث الذين يخرج عليهم منهجا وتطبيقا.

فمن حيث المنهج يرفض جمال البنا قواعد المحدثين في الجرح والتعديل والتي من خلالها يثبت النص/ الحديث، وعلى رأسها "عدول الصحابة" حيث ينفي وجوب تعديلهم إلزاما كما استقر المنهج عند أهل السنة والجماعة، ويري أنهم قد يكذبون في الحديث، وإذا لم يكذبوا فهم ينسون، والنسيان أخو الكذب، وكثرة رواية الصحابي للحديث عنده تجرحه؛ إذ إن أفاضل الصحابة وكبارهم أقلهم رواية للحديث، والعكس بالعكس!.

ويحاول جمال البنا وضع قواعد بديلة عن قواعد المحدثين في التعامل مع الحديث تركز بالأساس على نقد المتن أو نص الحديث، وينعى على أهل الحديث الذين اكتفوا-في رأيه- بنقد السند ولم يقتربوا من المتن، وتعتمد رؤيته في "ضبط" السنة على الاحتكام إلى القرآن الكريم باعتباره النص الأول والنهائي، فيضع اثني عشر معيارا للتعامل مع السنة، وبضبطها قرآنيا تخالف كل ما استقر عليه الأمر في العصور الإسلامية المختلفة.

وترفض المعايير الجديدة أحاديث الغيب والمغيبات من الموت حتى القيامة والحساب، وكذلك أحاديث فهم المبهم من القرآن أو نسخه، والأحاديث التي تخالف أصولا واضحة فيه، وتلك التي لا تساوي بين الرجل والمرأة في أي شيء حتى الميراث والطلاق، ويرفض كذلك أحاديث المعجزات النبوية، والأحاديث التي تنسب فضلا لأحد، أو التي تخالف مبدأ الحرية المطلقة للعقيدة، أو تشرع ما لم يأت به القرآن (كالرجم مثلا)، والتي تعد بثواب أو عقاب مبالغ فيه في رأيه... وأخيرا التي توجب طاعة ولي الأمر.

ووفق هذا المنهج لا تثبت أحاديث كثيرة عند جمال البنا مع أنها صحيحة ومشهورة بسبب أنها تصطدم عنده بقواعد المنهج القرآني؛ إذ يرى أن كل كتب السنة تعج بالأحاديث الموضوعة والمكذوبة بما فيها كتب الصحاح الستة، وعلى رأسها صحيحا البخاري ومسلم أصح الكتب بعد كتاب الله في مذهب أهل السنة؛ لذا فقد وضع كتابا في نقدها و"غربلتها" من الموضوعات أسماه: "تجريد البخاري ومسلم من الأحاديث التي لا تلزم". وهو بهذا المنهج يضرب في الصميم قلعة الفقه "القديم"؛ وهو كل الفقه الذي أنتجه العقل المسلم في عصوره المختلفة؛ لأن هذا الفقه يقوم بالأساس على السنة.

بعد أن يُخضع جمال البنا السنة لعملية غربلة وتصفية شاملة قد لا يتبقى معها إلا بضعة أحاديث نكتشف أن هذا القليل من السنة لا يمثل عمادا يصلح أن يقوم عليه الفقه الجديد أو يتأسس عليه عقل فقهي حديث؛ إذ إن السنة حتى في حال ثبوتها وفق هذه المعايير لا تتساوى مع النص القرآني بحيث تشكل مصدرا رئيسيا للفقه؛ حيث إنها ليس لها تأبيد القرآن ومرجعيته لاختلاف في طبيعة الوحي الذي جاءت من خلاله؛ فهي -عنده- أقل درجة؛ إذ إن مصدرها وحي سني أقل دقة، وقوامه ما روي عن النبي في وصفه: "ألقي في روعي"، ومن ثم فهو ليس صالحا لكل زمان ومكان بل هو مجرد إلقاء في الروع.

وبعد أن تعمل عملها لا تتوقف آلة المنهج النقدي والتفكيكي عند جمال البنا عند النص النبوي؛ إذ تنتقل تلقائيا إلى النص الأول والمؤبد والأعلى عنده، وهو القرآن الكريم الذي يبدو من أول وهلة أن مقدمات البنا في نقد السنة تعتمد عليه، ثم لا يلبث أن تتضح الصورة، ونكتشف أن النص القرآني نفسه ليس بعيدا عن سيف التفكيكية أو سرطانها في هذه الحال؛ فهو يبدأ في التمييز بين النصوص القرآنية؛ فيفصل بين النصوص التي تتعلق بذات الله وما وراء الغيب، ويعطيها رتبة أعلى تقترب من الدوجمائية أو الثبوتية، أما النصوص الأخرى وهي الأغلبية والبقية الباقية من القرآن الكريم؛ فلها رتبة أقل ومنهج آخر في التعامل معها أساسه تقديم العقل (مطلق العقل) على النقل (مطلق النقل)؛ فتصبح قابلة للإيقاف في حال انتفاء العلة أو قابلة للتأويل في حال عدم قبول العقل لها.

وبهذه الآلية يعيد البنا النظر في أصول الفقه؛ فيدخل عليها بالحذف والتعديل والإضافة كذلك؛ فيقدم أصلا ثالثا يسميه "الحكمة"، وهو أصل رافده ليس النصوص المنزلة وليس له ضابط مستقر ومحدد، وإنما هو "نتاج وثمار العقل البشري".

ثم يرسي جمال البنا بقية قواعد منهجه الجديد في التعامل مع القرآن (راجع كتابه: تفسير القرآن بين القدامى والمحدثين) الذي تتمثل أولى ملامحه في رفض ما اصطلح على تسميته بعلوم القرآن جملة وتفصيلا؛ وهي العلوم التي استقر علماء السلف على اعتمادها كقواعد وآليات لفهم النص القرآني، ويعتبر البنا أن القرآن هو الذي يفسر نفسه بنفسه حتى من دون العودة إلى السياق الذي تنزلت فيه الآيات أو ما يعرف بأسباب النزول، وله في ذلك جملة آراء أخرى في هذه المساحة منسجمة مع السياق نفسه، أهمها استبعاد النسخ من القرآن نهائيا حتى في حال التعارض المؤكد بين النصوص، ويطرح بدائل أخرى مثل "اختيار الأصلح" من بين أي نصين يتعارضان! إذ إن التعارض قد يكون مقصودا لذاته، ومن أجل أن يختار المسلم ما يراه الأصلح له ولزمنه.

ويصبح من نافلة القول أن نزيد فنقرر أن أهم قاعدة يعتمدها جمال البنا في التعامل مع القرآن هي رفض كل التفاسير السابقة عليه والتحرر من آراء وأقوال واجتهادات من سبقه؛ لأنها كانت الجناية الكبرى والخطأ الأعظم في حق القرآن، ولأنها -في رأيه- تقدم وجهة نظر المفسرين وليس ما أراده صاحب النص!.

يتبنى جمال البنا رؤية قديمة للشيخ محمود شلتوت رحمه الله في كتابه "الإسلام عقيدة وشريعة" يفرق فيها بين العقيدة والشريعة من حيث الطبيعة والآلية والهدف؛ فالعقيدة طبيعتها إيمانية، وآلتها الوحي، وهدفها الإيمان والسلام الروحي. والشريعة طبيعتها دنيوية، وآلتها العقل، وهدفها العدل الدنيوي.. ولكن جمال البنا يوسع هذه الرؤية ويمدها على استقامتها، ومن ثم فإذا كانت العقيدة ثابتة (رغم ضبابيتها عنده) فإن الشريعة متطورة ومتغيرة ومتحولة؛ لأنها "تصدر لمصلحة أو لحكمة أو لعلة"، كما أن التغيرات الدنيوية تجعل المصلحة لا تتحقق مع النص في كثير من الأحيان، ومن ثم فإن ارتباط النص عنده بالحكمة أو العلة أو المصلحة يجعله ينتفي بانتفائها! وعلى هذا الأساس لا حرج عنده من إعادة النظر في الشريعة جملة وتفصيلا في ضوء مدى توفر الحكمة التي سنت من أجلها وتحقيق هدف العدل فيما يبدو وكأن على الشريعة أن تكيف نفسها مع واقع الناس لا أن يضبط الناس واقعهم عليها.

مصلح اجتماعي لا مجدد ديني

وفي رؤيته الجديدة تجد أقوالا لكبار الأئمة والأصوليين بما يشعر أن ما يقوله امتداد لتيار قديم؛ فتجد اقتباسات من كلام العز بن عبد السلام وابن القيم والشاطبي ونجم الدين الطوفي، خاصة في نظرية المصلحة التي توسع فيها جمال البنا بما لم يقل به من بدءوها، غير أنك عند التدقيق تجد أن الإطار الذي يضع فيه جمال البنا هذه الإحالات والاقتباسات مفارق تماما لما قيلت فيه، وهو إطار لا أراه مناقضا للرؤية السنية السلفية فحسب بل ربما لمفهوم الدين عموما الذي يقوم بالأساس على الدوجما أو الثبوتية، فيبدو ما يطرحه البنا -أيا كان عقلانيته وانفتاحه- بعيد الصلة تماما بأصول الدين، وهو أقرب إلى نظريات الإصلاح الاجتماعي منه إلى مشروع إصلاح وتجديد ديني.

مشروع جمال البنا هو أقرب لمشروع مصلح اجتماعي مهموم بقضايا العدل الاجتماعي والحرية منه إلى مجدد للدين على أصول وقواعد، ومن ثم فإن ما قد يقوله يفتقد للتأسيس الديني والتخريج غالبا، وحتى لو تضمن إحالات أو إرجاعات لنصوص وقواعد فهي تأتي أقرب إلى طريق التوافق غير المقصود بين حكمة العقل والنقل، أقرب إلى المشترك الإنساني والعقل الفطري منه إلى الالتزام بدين بعينه.

يظهر ذلك جليا في رؤيته لمبدأ الحل والحرمة الذي يبدو فيه ماركسيا حين يربطه بالضرورة بالعلة والفائدة، فيقول: إن الحلال حلال لأنه فيه فائدة وله علة في حله، وإن التزامنا به رهن بمعرفة العلة أو تحقق الفائدة وكذا الحرام: فنحن لا نشرب الخمر لأنها ضارة تذهب الوعي، ولا نأكل الخنزير لأن لحمه ضار كما يؤكد الطب!.. وهكذا حتى يصل إلى أن قراءة كتاب أو الانشغال بعمل هو أفضل من أداء السنن والنوافل!.. إنها رؤية تستدمج المادية والنفعية بداخلها حتى وهي تتكلم في أمور الدين.

ومشروع جمال البنا لا يقترب بالإسلام من العلمانية فحسب بل يكاد يرفع بينهما كل الحدود حتى وكأنه يقدم إسلاما علمانيا؛ فالإسلام لا علاقة له بشئون الدنيا إذ هو "مجرد دعوة للهداية"، والإسلام عنده لا يفرق بينه وبينه العلمانية إلا حساب اليوم الآخر فحسب الذي تغفله العلمانية التي هي دنيوية بالأساس.

وإذا كان ما سبق الإطار النظري الذي أسس عليه جمال البنا رؤيته للفقه الجديد فقد ترجمته جملة من الآراء الفقهية في الفن والمرأة والحكم والسياسة والاقتصاد وكل مجالات الحياة لا تقل إثارة للجدل؛ فهو لا يرى في الحجاب فرضا، ويوافق مطلقا على فوائد البنوك إن كانت للمودع، ويربطها بعدم الاستغلال إن كانت للمقترض، ويقبل بزواج المتعة، ويرفض حد الردة... وهو أخيرا يرفض أي دور للدين في الدولة التي يجب أن تستبعد الدين تماما من النظام السياسي، وتقيم السلطة برمتها على أساس مدني، رافضا بذلك أطروحة الدولة الإسلامية التي كانت نهاية المشروع الذي طرحه حسن البنا ليكتمل الفراق، وليتخلص حتى من الخيال الذي داعب أخاه.

لم يكن في شخصية جمال البنا شيء من سمات أخيه الشيخ حسن "الداعية المجيد، والقائد الحركي صاحب الملكات التنظيمية الباهرة، والزعيم الجماهيري المبرز، ورجل المراحل والخطوات المحسوبة، وصاحب العلاقات القوية مع المؤسسة الدينية الرسمية (الأزهر)"، ولم يكن منتظرا أن يحمل مشروعه أو يرتدي جلبابه السلفي.

لقد حدد جمال البنا مشروعه واختصره في السعي لهدم بنيان المدرسة السلفية واقتلاعها من جذورها، وهي المهمة التي يرى أنها لن تؤتي ثمارها قبل مائة عام وهو لا يستعجل هذا الثمر، ورغم القطيعة التامة التي كانت وتأكدت بينهما فهو يصر على أن شقيقه حسن البنا لو عاش لقال مثل ما يقوله، غير أنه عوجل في شبابه، ويقول: "حسن البنا كان قادرا على تطوير خطابه ورؤيته في زمن قياسي؛ فهو بدأ جماعته كجمعية خيرية صوفية عام 1928، ثم لم يلبث أن طورها فصارت عام 1948 دعوة وجماعة عالمية شاملة، ولو عاش عشرين عاما أخرى لفعل ما أفعله أنا"!.

* مدير تحرير النطاق الثقافي بموقع إسلام اون لاين.نت/ القسم العربي
__________________

حسب الواجد إقرار الواحد له.. حسب العاشق تلميح المعشوق دلالا.. وأنا حسبي أني ولدتني كل نساء الأرض و أن امرأتي لا تلد..

آخر تعديل بواسطة المشرف العام ، 16-03-2010 الساعة 06:07 PM.
عصام الدين غير متصل   الرد مع إقتباس