الموضوع: ساعة عمل
عرض مشاركة مفردة
غير مقروءة 22-11-2006, 05:54 PM   #40
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

في معصرة الزيتون :

هناك أعمال تدوم بدوام صاحبها في مزاولتها، فنقول حراثة وحرَاث طالما أن يكون هناك من يحرث، ونقول مؤذن طالما كان الأذان يؤدى، ولكن لن يستطيع أي كان التعرف على المؤذن وهو يسير في الأسواق، دون أي يكون من ينظر إليه ليس على سابق معرفة به.

كما هناك أعمال تؤدى في مواسم دون غيرها، وتنتهي بنهاية الموسم، وقد تحتاج الى مكائن وآلات خاصة، فماكنة الحصاد للحبوب لا تستخدم إلا في الصيف عند نضج الحبوب واصفرار نباتات القمح والشعير وغيره، فيقوم أصحاب تلك الآلات بتوظيبها وتهيئتها قبل الموسم بمدة بسيطة.

كذلك هي مكائن وآلات عصر الزيتون والمحاصيل الزيتية، والتي جرى عليها تطوير مستمر منذ عهد الإنسان في استخراج الزيوت من المحاصيل الزيتية، فمن فكرة التكسير و الطحن والعجن والتخمير الى استخدام خاصية التباين في الكثافة الى استخدام خاصية الطرد المركزي المستخدمة حاليا، إذ تطرد السوائل المستخلصة من العمليات المتعاقبة ذات الكثافة العالية من خلال مخرج خاص بها لتنساب قطرات الزيت المتجمعة من فتحة خاصة قريبة من المحور الرئيسي لجهاز الطرد المركزي.

يكثر حديث الناس الذين يرتادون الى تلك المعاصر، في حساب أرباح أصحابها فيضربون عدد خطوط الإنتاج بالطاقة الإنتاجية، ثم بأجرة المعصرة، ويقدرون أرباحا مبالغا فيها لأصحاب المعاصر، شأنهم في ذلك شأن كل الناس في كل شيء فإن مروا بمحطة للوقود أشغلوا أنفسهم بكم سيارة تقف بالساعة ويضعون هامشا للربح ويحسبون، وكأنهم يعملون بدائرة ضريبة الدخل ..

لكن الحديث والحساب لن يدوم، فكما يفكر بعض أبناء العشائر ببناء ديوان للعشيرة إذا ما توفي عندهم أحد، وبعد أن تخلص أيام العزاء تتبخر الفكرة لحين وفاة أخرى. ولكن تكرار تلك العمليات الحسابية والأفكار هذه قد تدفع بمغامر أن يحول تلك الأفكار لإجراء.

عندما وصل الى معصرة الزيتون، رأى أكداسا من أكياس الزيتون مكومة مع فواصل بسيطة فيما بينها، لتبين حدود ملكية كل زبون، ورأى أصنافا مختلفة من الناس فمنهم من يقف بملابس فاخرة ويتأفف من التماس مع أكوام الأكياس التي ينز الزيت منها، وعندما يخطو يخشى على أطراف (بنطاله) من أن تعشق شيئا من لزوجة الأرضية، التي لم تعد بلاطاتها تظهر من كثرة ما التصق بها من بقايا سحب الأكياس وأقدام المارين ..

قبل عدة سنين، كان مزارعو الزيتون يذهبون لمسافات تصل الى مائة كيلومتر وراء شهرة إحدى المعاصر، فقد تنتشر الإشاعة بأن تلك المعصرة أفضل معصرة بالبلاد لما تعطي من نسبة عالية من الزيت، وقد يضيف من ينشر تلك الدعايات قصصا عن معاصر زارها وكيف أنه رأى أحد المزارعين أحضر أكثر من طنين من الزيتون دون أن يحصل على قطرة من الزيت، ويكثر الحديث بالدواوين عن أنواع الزيتون الذي يعطي زيتا وفيرا، وعن مواعيد قطف الزيتون وغيرها من المهارات التي لم يكن فيها من الصحة إلا القليل ..

واليوم بعد أن زادت أعداد الأشجار حوالي أربعين ضعفا عما كانت عليه قبل خمس وعشرين عاما، فقد يسجل أحدهم اسمه ويشترط عليه إداريو المعصرة أن يحضر زيتونه، وقد يتناوب على حراسته انتظارا للدور حوالي خمسة أيام، خصوصا أيام أوج الفيض، أو أن يصادف عطلة ما، فإن القطف سيزداد من الموظفين وطلبة المدارس ..

كنت تلاحظ عجوزا تسند ظهرها على مجموعة أكياس وهي مغمضة العينين، وتسمع حوارا بصوت عالي قرب (قادوس) الزيتون عند بداية الخط، وأيدي تمتد لتزيل أوراق الزيتون قبل أن يرفعه(السير) للغسيل و الطحن، وتلاحظ هناك من يفاوض أحد العاملين ليقدم دوره على الآخرين، وتلاحظ رجلا (فني) منكوث الشعر بوجه غاضب يحمل أدوات لفك قطعة من أحد الخطوط، وتلاحظ أحدهم يراقب (عجنته) في قادوس قبل أن تتهيأ لدفعها الى (جهاز الطرد المركزي)..

وتلاحظ أحدهم يجلس على كرسي ومركز ناظريه على سيلان زيته من أنبوب ليستقر في عبوة، في حين تصطف عدة عبوات مليئة بالزيت وراءه وبالقرب منه، وهناك من يزن زيته ويتحدث الى الإداري، ولما أصبحت حصتكم واحد من ثمانية ألم تكن في العام الماضي واحد من إحدى عشر، والإداري يبرر ذلك بارتفاع فواتير الوقود ..

وهناك من يحسب زيته ويحاور نفسه، عمال القطف أخذوا خمس الإنتاج وهؤلاء سيأخذون ثمن الإنتاج، سأبعث الى أخواتي كذا وسأعطي فلان كذا، فينتبه على صريخ أحدهم .. السيارة التي تريد أن تفرغ الماء تعيقها سيارتك .. أبعدها أخي لو سمحت ..

وهناك من تحمل بيدها وعاءا صغيرا تطلب المساعدة وملئه ممن يعصرون، وهناك من يراقب الأدوار وليس معه زيتون، ليجد غفلة من زمن ليأخذ كيسا من زيتون ويضعه الى جانبه ..

وهناك من يأتي بساحبة (تراكتور) ليملأ عربتها ببقايا عجينة الزيتون التي لفظتها المكائن خارج مبنى المعصرة، ليطعمها لأغنامه ..

هذا عالم المعصرة الموسمي ..
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس