عرض مشاركة مفردة
غير مقروءة 19-11-2008, 07:09 AM   #8
olaegy
عضو جديد
 
تاريخ التّسجيل: Dec 2007
المشاركات: 34
إفتراضي


ومضت سنوات انشغلت فيها بلملمة شمل الأسرة ورعاية مصالح الأبناء حتى كبروا وانشغلوا عنها بدراستهم وأصدقائهم , وأصبحت تجلس أغلب أوقاتها وحيدة , وتحرك بداخلها شوق يزداد شيئا فشيئا ولكنها تحاول إنكاره واستبعاده من وعيها , ولكنه يعاود الظهور ويزداد إلحاحا , إنها في حاجة لمن يؤنس وحدتها , هي تخاف الزمن وتخشى ذلك الوقت الذي يمضي فيه أبناؤها مع زوجاتهم ويتركونها وحيدة , أو يدعونها للعيش معهم ولكنها تكره أن تكون ضيفا ثقيلا على أسرة حتى ولو كانت أسرة أحد أبنائها.

يكاد الأمر يخرج من يدها , ويكاد لسانها ينطق به لمن حولها , ويزداد الإلحاح وتزداد القناعة كلما ازداد الأبناء انشغالا بحياتهم خارج البيت , وكلما بدا جحودهم لتضحيتها من أجلهم . وفي أحد الأيام قررت أن تزور طبيبا نفسيا وأن تلقي إليه بكل أحاسيسها , وهي مطمئنة لحفظ سرها لديه , وفعلا ذهبت وتكلمت , وأخرجت مشاعر مدفونة من سنين , وبكت , وتنهدت , وتذكرت , وتألمت , وقرب نهاية الجلسة نظر إليها الطبيب وقال : ولم لا تتزوجين ؟؟ ... فخافت وارتجفت (أو تظاهرت بذلك ) , وردت بتردد وتلعثم واستنكار مصطنع : كيف تقول هذا يا دكتور , وأترك أبنائي وحدهم , أو أجلب لهم رجلا غريبا مكان أبيهم الذي يقدسونه ؟؟؟ .... وماذا سيقول عني الناس , وكيف أواجه المجتمع ؟؟ ... وهل تظنني أنانية لهذا الحد أفكر في سعادتي على حساب سعادة أبنائي ؟؟؟ .... وإذا تركنا كل هذا أأخون ذكرى المرحوم زوجي الذي عشت معه أجمل سنين حياتي ؟؟ ... وهل سيرضى بهذا وهو في قبره ؟؟ وماذا أقول له حين ألقاه بعد موتي ؟؟ ... ومع من أكون في الجنة إذا قدر الله لي أن أدخلها أأكون مع زوجي الأول وأبنائنا , أم مع زوجي الثاني وأبنائي منه ؟؟ ... وكيف أنكشف على رجل ثان ؟ .... لقد وجدت صعوبة شديدة في أول زواجي حيث كانت بالنسبة لي كارثة أن اخلع ثيابي في وجود رجل حتى ولو كان زوجي , وظللت شهورا حتى تعودت على هذا الأمر مع زوجي يرحمه الله !!!! . وتركها الطبيب تسترسل في الإعتراضات والتساؤلات , والإستفهامات , والإحتجاجات دون أن يرد , ثم أخبرها بأن وقت الجلسة قد انتهى , وأنه سيراها في الأسبوع المقبل . وفي الموعد المحدد حضرت للجلسة الثانية مع الطبيب , وفاجأته برغبتها الملحة في الزواج , وبدأت تناقشه في المشاكل المحتملة وكيفية مواجهتها , وكانت تؤيد فكرتها من وقت لآخر بنصوص دينية تبين أهمية الزواج للمرأة والرجل , وأن الزواج حصن من الفتن , وأنه سنة الله في خلقه , واستشهدت بعصر النبوة حيث كانت هناك مرونة في الزواج للأبكار والمطلقات والأرامل , ولم تكن هناك أي تعقيدات في الزواج , ولم يعرفوا هذه الحساسيات والمحاذير التي نضعها الآن في طريق الأرامل والمطلقات , بل وأحيانا البنات .
واختفت عدة شهور , ثم ظهرت وقد بدا عليها تغير كبير في مظهرها وفي جوهرها , فسألها الطبيب عن سر ذلك التغير فردت بابتسامة واثقة :

- لقد تزوجت ؟
" مبروك , الحمد لله
- ولكني أعاني معاناة من نوع جديد
" كيف ؟
- أرى زوجي الأول في أحلامي كثيرا , وهذا ما جعلني أحضر إليك اليوم , أتعذب كثيرا من هذا الأمر , أحيانا أراه راضيا ومطمئنا بما فعلت حتى لا أعاني مرارة الوحدة بعد زواج أبنائي , وأحيانا أراه غاضبا ثائرا وناقما عليّ , وأحيانا أرى علامات الغيرة الشديدة التي أعرفها لديه , وفي أحد المرات رأيته يتصارع مع زوجي الجديد يحاول أن يقتله ولكن زوجي قتله وقتلني بعده , وفي أحد المرات جاء يأخذ مني أبنائي ...... كل هذا مؤلم ولكنه محتمل إلى حد ما , ولكن مالا أستطيع احتماله هو ذلك الشعور بالخيانة الذي يملأ نفسي , فأنا أشعر أنني أخون ذكرى المرحوم حين أكون مع زوجي الجديد , وإذا رأيت زوجي الأول في منامي في أوضاع حميمية أو حتى في لقاءات عادية فإنني أشعر بأنني أخون زوجي الثاني , ........ باختصار أنا أشعر بالذنب تجاه الإثنين , وهذا يعكر صفو حياتي . ذهبت إلى شيخ كبير لأستشيره فيما فعلته فبارك فعلي وطمأنني إلى أنني اتبعت السنة حين تزوجت , وحين صارحته بأحلامي طمأنني بأن الأحلام ليس لنا عليها سلطان , ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها , وأنني لم أخن الزوج الأول بزواجي من ثان , ولم أخن الزوج الثاني بأحلامي مع الأول ..... ورغم أن كلمات الشيخ طمأنتني بعض الوقت إلا أن الشكوك والمخاوف مازالت تطاردني !!! .

" هذه مرحلة وستنتهي , وأرجو فقط تصحيح الوصف , فزواجك - كما قال لك الشيخ - ليس خيانة للمرحوم بل هو استجابة لتعاليم الشرع ولقوانين الحياة , كما أن أحلامك ليست بإرادتك فكونك تلقين زوجك الأول على أي شكل ليس خيانة لزوجك الثاني بل هو إخلاص لا شعوري لزوجك الأول , وهي ليست بالضرورة رسائل حقيقية من العالم الآخر , وإنما هي بالأحرى أفكارك ومشاعرك الداخلية المتناقضة تتبدى لك في أحلامك .
- ولكنني أتعذب بكل هذا

" حاولي الآن في الجلسة أن تتحدثي عن أفكارك ومشاعرك المتناقضة والمتصارعة بين الزوج الأول والزوج الثاني لكي يصل الأمر بداخلك إلى حالة من الإستقرار النسبي , وسوف أساعدك في هذه الرحلة الإستكشافية حتى نصل معا إلى ترسيم الحدود في تلك العلاقات القديمة والحديثة وإعادة تنظيم للأفكار والمشاعر .


وقد كانت رحلة شاقة , حيث اتضح أن للزوج المتوفى مساحات هائلة داخل نفسها , فقد كان أول حب لها , وأول رجل تفتح له قلبها , وتمنحه نفسها , وكانت قد رتبت حياتها على أنه الرجل الوحيد في حياتها , ليس فقط في الحياة بل أيضا في الآخرة , وكثيرا ما كانا يتحدثان في هذا الأمر في لحظات الصفاء , وتذكر أنها كانت تغار من فكرة وجود الحور العين لزوجها في الجنة فقد اعتادت أنه لها وحدها , وأنها له وحده . يضاف إلى ذلك ذكريات هائلة بينهما , ففي كل مكان تذهب إليه تتذكر لحظات ومواقف معه , وتسمع كلماته وهو يصف شيئا أو يعلق على شئ . حتى مواقف الخلاف بينهما تذكرها بتفاصيلها , وتذكر لحظات الصلح بعدها , وما أجملها من لحظات .... لقد كان حقا يملأ قلبها وعقلها ووعيها وصحوها ونومها , لقد تسلل إلى كل خلاياها بسماح كامل منها ثم اختفى فجأة وترك آثاره تحتل كيانها دون أن تدري .

وعلى الرغم من محاولة تجنبها المقارنة بين الزوج الأول والثاني إلا أن شيئا يحدث تلقائيا بداخلها يجعلها تقارن أوتوماتيكيا بين الأول والثاني في كل موقف وفي كل كلمة , وهذا يعكر صفو حياتها فسواء كانت الغلبة للأول أو للثاني فهي تتألم للمغلوب , وكأن هناك رجلان يتنافسان بداخلها وهي تحب كلا منهما , ولا تدري أيهما تناصر , فزوجها الثاني رجل فاضل وهو يحترمها ويحترم إخلاصها لزوجها الأول وإن كانا يتجنبان الخوض في هذا الأمر , وهو رجل صالح بمعنى الكلمة .

وقد يحسن بنا أن نختم هذا المقال بذكرالسيدة أسماء بنت عميس فقد ترملت أربع مرات وتزوجت خمس زيجات , فكان زوجها الأول حمزة بن عبد المطلب , وحين مات تزوجت شداد بن الهاد , وحين مات تزوجت جعفر بن أبي طالب , وحين مات تزوجت أبو بكر الصديق , وحين مات تزوجت على بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين , وهي بهذا تعطي مثلا للأرملة بجواز الزواج بعد الترمل حتى لو تكرر ذلك عدة مرات , وحتى لو كان الزوج المتوفى في عظمة حمزة بن عبد المطلب أسد الله وسيد الشهداء , وحتى لو كان الزوج المتوفى جعفر بن أبي طالب (جعفر الطيار , قائد وشهيد غزوة مؤتة , وابن عم النبي صلى الله عليه وسلم) , وحتى ولو كان الزوج المتوفى أبو بكر الصديق خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم , وتعكس حياتها حالة من المرونة والتقبل الإجتماعي للأرملة , وتعكس حالتها حالة من الحيوية والحركية داخل المجتمع , فهاهي تتزوج بخيرة أهل عصرها , ولا يجد أحد في ذلك حرجا أو خجلا , ولم يقل لها أحد تبتلي وانقطعي لخدمة أولادك , أو احرمي نفسك من احتياجاتك الفطرية , أو عيشي على ذكرى المرحوم , ولم يقل لها أحد كيف تخونين ذكرى حمزة بن عبدالمطلب أو شداد بن الهاد أو جعفر بن أبي طالب أو أبو بكر الصديق , وكلهم من الأعلام المعدودين ومن الرجال البارزين الذين ربما كفت ذكراهم أي امرأة فخرا وعزا , ولكنها الإستجابة للفطرة الإنسانية واحتياجاتها , واستجابة لاستحباب الزواج للأعزب والمطلقة والأرملة , وأن مشكلات زواج الأرملة النفسية والعائلية والإجتماعية أقل بكثير من إغلاق قلبها ووحشة روحها وشكوك مجتمعها وتعنت أهلها .

دكتور / محمد المهدي
__________________

olaegy غير متصل