الموضوع: مؤازرة
عرض مشاركة مفردة
غير مقروءة 08-10-2008, 12:10 AM   #7
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

(16)

تشكلت لجان ووضعت جداول لزيارات المواطنين لكسب تأييدهم، والتجول في القرى المحيطة بالقصبة. كان النظام الانتخابي يجيز انتخاب ثلاثة مرشحين بورقة اقتراع واحدة، لذا فإن المرشحين ومن يديرون حملاتهم الانتخابية كانوا منشغلين في عقد صفقات. والمرشح القوي كان محط أنظار المرشحين الآخرين لعقد الصفقات معه.

لم يهتم بمسألة تبادل الأصوات غير الذين يأخذون من اللعبة الانتخابية طريقا للتسلية والشهرة واختبارات توكيد الذات، فكما أن ألعاب الكمبيوتر بها مستويات كل مستوى جديد أعلى من سابقه يزيد تعقيدا عنه ويؤكد مهارة من يجتازه، فإن موضوع تبادل الأصوات يجعل من دائرة معارف من يقومون بالتوسط والتنسيق في عقد مثل تلك الصفقات أوسع، وتبقى شهرتهم ماثلة إذا نجح المرشحان لفترة طويلة فيستفيدون من مثل تلك النجاحات في التوسط في فض النزاعات العشائرية أو الحضور الاجتماعي وربما السياسي.

تناول الجمهور موضوع التبادل والزيارات لإدارات حملات المرشحين الآخرين بسخرية لاذعة، فمنهم من قال: أنهم يبيعون ويشترون بأصواتنا وكأننا عبيد لهم فلم يكتفوا بأن ينتزعوا منا مؤازرتنا لهم بالتخجيل والرجاء ولكنهم صاروا يساومون الغير على أصواتنا وكأنها أموال موجودة في رصيدهم بشكل مضمون.

(17)


في صالة النساء المخصصة لهن في مجلس عزاء، وبعد انتهاء موجة ولولة، وسرد تفاصيل اللحظات الأخيرة لموت المرحوم التي ترويها أرملته بين حين وآخر، وجدت النساء متسعا من الوقت لكي يتكلمن بموضوع الانتخابات.

قالت امرأة غانم (مرشح الإجماع) موجهة كلامها لزوجة الشيخ صالح عندما سألتها الأخيرة عن آخر أخبار الحملة الانتخابية: الحمد لله طالما أن الشيخ صالح يقف بجانب زوجها، فإن كل الأمور بخير، وأخذت زوجة المرشح تكيل المديح للشيخ صالح والحديث عن مناقبه، ولم تكن تعلم أنها كانت تغيض النسوة الجالسات اللواتي ينتظرن نصيب أزواجهن من المديح، دون جدوى. ولعل ما لم تستطع زوجة المرشح التنبؤ به هو تأثير حديثها السلبي على مواقف تلك النسوة، وربما مواقف أزواجهن أو حتى عشائرهن!

لم يكن (غانم) مصلحا اجتماعيا أو مخترعا أو قائدا عسكريا أو مرشح حزب سياسي تلتف القواعد حوله. إنه مجرد اسم من بين الأسماء وقف الحظ أو سياق التحرك الانتخابي بشكله معه، وأي خطوة لم تحسب جيدا قد تؤثر على النسوة وحتى الرجال.

كانت هناك امرأة تراقب انفعالات زوجة الشيخ صالح وهي تتلقى دفقات المديح من زوجة المرشح، فقد كانت زوجة الشيخ صالح تترنم على سماع مديح زوجها وتمثل دور التي لم تسمع جيدا ما قالته زوجة المرشح، فتطلب منها أن تعيد ما قالته، وقد استحت أن تطلب السكوت من النسوة للإصغاء لما تقوله زوجة المرشح، فكانت تهمهم بنشوة: "آخ لو تقول لهم واحدة يسكتوا.... آخ لو كان صوتها عالي شوي، ولا لو كانت تحكي في التلفزيون"
لكنها كانت ترغب بأن تتطوع إحدى النساء بالطلب من النسوة بالإصغاء،كرغبتها وتمنيها أنه لو كانت زوجة المرشح ذات صوت أعلى أو أنها تجلس خلف جهاز التحدث الآلي.

كانت المرأة التي تراقب زوجة الشيخ صالح، من إحدى قريباتها، لكن زوجها قد تزوج عليها أخت الشيخ صالح، فأخذت تفكر بالكيفية التي تشق موقف العشيرة نكاية بأخت الشيخ صالح (ضرتها) ونكاية بالشيخ صالح وزوجته، وليذهب غانم وفرصه للنجاح الى جهنم.

(18)

كان أبو محمد لا يخفي فرحته باستقبال (مقبل) و (يوسف) وأصحابهما، إذ كان يعتني بتحضير القهوة والشاي وتقديم بعض الحلويات، ومشاورة زواره بتحضير عشاء، وإن كانوا يزورونه يوميا بعد العشاء. ورغم أنه اعتاد النوم بعد العشاء بقليل، لكنه كان يستفيد من تردد هذه العينة من الناس، والتي من بينها الطبيب والمهندس والمحامي والكاتب المشهور في الصحف، وسياسيون تم استضافتهم بالمعتقلات. وكان يروق له الإحساس بأنه من يحركهم ويساهم في مجهودهم، وكان يبتسم فرحا عندما يأتي أحد أحفاده ويخبر الحاضرين عن (دوريات) المرشحين الآخرين ومرورها من جنب ديوان (أبي محمد) لمعرفة من يسهر عنده.

لم يكن أصحاب مقبل من صنف سياسي واحد، كان منهم من ينتظم بشكل دائم، ومنهم من لم يحضر اجتماعا حزبيا طيلة حياته، لكنه كان يحب أن يوهم كل الناس بأنه حزبي، أما المخابرات فكان مطمئن من جهتها لأنه بكل بساطة لم يكن حزبيا.

كان هؤلاء الرجال في معارك توكيد لذاتهم اجتماعيا، فيحبون أن تذكر أسماؤهم مع الأسماء الفاعلة في حملات الانتخابات، وكانوا يتبادلون المعلومات عن مواقف الناخبين، كونهم من عشائر مختلفة، لكن روح الفريق عندهم تتفوق على ولاءهم لعشائرهم، فلا يتورع أحدهم عن كشف موقف معاد يقوم به أحد أقاربه، وهذا ما يقوي روح المواءمة لديهم وظهورهم أمام الآخرين كفريق.

(19)

بينما كان أبو محمد منشغلا في تلقيم الشاي بالإبريق الرابض فوق الجمر أمامه، كان يدور حديث غير هام كثيرا بين ضيوفه الدائمين، بل كان يتناول ما يجري في الدوائر الانتخابية الأخرى.

ففي إحدى الدوائر الانتخابية كانت تضم مجموعة من القرى، لا تزيد أصوات القرية الواحدة عن ألف صوت في أحسن الأحوال، وليس هناك أمل في أن ينجح مرشح أي قرية من تلك القرى إلا بالتوافق مع القرى الأخرى، فكان المرشح يتم اختياره بعد ضرب القرعة على اسم القرية التي ستقدم مرشحا، وبعد أن يرسو الاختيار على تلك القرية يتم اختيار ذلك المرشح عن طريق قرعة أخرى.

وفي دائرة أخرى يتم وضع أدوار يلتزم بها أهل القرى والعشائر، فالدورة التي يتم فيها اختيار المرشح من قرية أو عشيرة لها الدور فإن القرى الأخرى أو العشائر الأخرى لا تتحرك إلا في حدود ما تطلبه منها تلك القرية أو العشيرة صاحبة (الحق أو الدور)!

ضحك يوسف وهو يستمع لمثل تلك الأحاديث، وقال أي مشرع سينتخب الناخبون دون أن يتعرفوا على قدراته الفكرية، كيف سيقوم بالتعامل مع القوانين والقضايا المطروحة عليه، وقد تم اختياره عن طريق (الحصوة) [كناية ساخرة عن ما تقوم به البصارة في رمي الودعٍٍٍ ]؟

تناول مقبل الحديث فقال: في اليابان لا يسمح للمتقدمين بالترشيح للبرلمان بقبولهم بقوائم المرشحين، إلا إذا أبرز شهادات تؤكد أنه كان عضوا في إدارة جمعية أو نقابة أو بلدية أو غيرها لخمس سنوات على الأقل. وفي بريطانيا تقدم الدولة للنائب مبنى خاصا به ومجموعة كبيرة من الموظفين يتابعون القضايا ويفرغون الإحصاءات ويعدون شكل المداخلة للنائب. إذ لا يعقل أن يلم المعلم (النائب بالبرلمان) بأمور الصحة والزراعة والرياضة دون مساعدة فريق متخصص.

ضحك الدكتور عبد القادر وقال: إذا أنتم تعرفون تلك المسائل لماذا تخوضون هذه التجربة السخيفة وتساعدون مرشحا لا لون ولا طعم ولا رائحة له؟

أحس يوسف بأنه بدأ حديثا كاد أن يزلزل فيه وحدة الجماعة فأراد أن يلطف الجو أو يحرف مسار الحديث فقال: لو فتشنا أدبيات البعثيين والشيوعيين والاخوان المسلمين لوجدنا أنهم يهاجمون الانتخابات بصفتها لعبة استعمارية وليبرالية وخادعة. ولكن إذا نجح لهم أحد المرشحين أو مجموعة من المرشحين لرأينا حديثهم وتقييمهم للتجربة يختلف. لا بد لتلك القوى من حسم لموقفها من موضوع الانتخابات والاستعداد لها واحتراف لعبتها إن أرادوها طريقا لتناقل السلطة.

انتبه أبو محمد الى حديث ضيوفه الذي لم يفهمه بشكل جيد ولم يستوعب ما تعنيه الكثير من المفردات التي قيلت فيه، لكنه فهم أن إيمان ضيوفه بموضوع الانتخابات لم يكن إيمانا راسخا، فتوجه الى أكثرهم شكوكا وهو الدكتور عبد القادر وقال: عمي يا عبد القادر.. إذا مررت على أناس يتقاسمون (البُراز) فقف وخذ حصتك..
رد الدكتور عبد القادر مشمئزا: لماذا تلك النصيحة المقززة؟
بصبر ودون تردد أجاب أبو محمد: يا ابني إن كانوا اليوم يتقاسمون البراز فغدا سيتقاسمون الذهب. أبقى أبو محمد عينيه مركزتين على وجه عبد القادر، ليتفقد أثر ما قاله له.
أُعجٍب مقبل بالطريقة التي عبر بها هذا الشيخ عن المواطنة!
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس