عرض مشاركة مفردة
غير مقروءة 22-02-2008, 05:04 AM   #24
السيد عبد الرازق
عضو مميز
 
تاريخ التّسجيل: Apr 2004
الإقامة: القاهرة -- مصر
المشاركات: 3,296
إفتراضي

[FRAME="11 70"]ذكريات في الترجمة
لا شيء يتحرّك بدون الترجمة

*عزت عمر

“دنيس جونسون ديفز” من مواليد مدينة فانكوفر بكندا عام 1922، اختار أن يتخصص باللغة العربية مبكّراً، وربّما لأنه أمضى بعضاً من طفولته في القاهرة، وفي وادي حلفا بالسودان، ولكن هذه الرغبة المبكّرة في دراسة اللغة العربية سوف تصطدم بعائق كبير يتمثّل في منهج سقيم يدرّسه مستعربون لم يسبق لهم أن عاشوا أو زاروا أي مكان في العالم العربي، مما دفع بالفتى الطامح إلى ما يشبه اليأس، حيث إنهم كانوا يعلّمونه لغة ميتة لم تمكّنه من شيء، اللهم بعض الدروس من كتاب "الكامل" للمبرّد، لم تشكّل أرضيّة تمكّنه من الانطلاق منها نحو دراسات معمّقة، أو العمل في إحدى الأكاديميات، ولم تمكّنه في الوقت نفسه من الدخول في عالم الأدب العربي الحديث،

إلاّ أن الصدف ستقوده نحو هيئة الإذاعة البريطانية، لينطلق في رحاب العربية من خلال الموظفين العرب هناك، ومن خلال دأبه وإصراره على تعلّمها، حتى أن نجيب محفوظ و إدوارد سعيد اعتبراه "رائد الترجمة من العربية إلى الإنجليزية"، حيث إنه أصدر نحو ثلاثين مجلّداً ضمت الكثير من النتاج الإبداعي القصصي والروائي العربي، وقد توّج مسيرته الطويلة هذه بالفوز بجائزة "الشخصية الثقافية لجائزة الشيخ زايد للكتاب"، حيث جاء في حيثيات منحها: "لإسهامه المتواصل في إثراء الثقافة العربية بترجماته الأصيلة لعيون الأدب العربي الحديث إلى اللغة الإنجليزية منذ منتصف القرن العشرين، ودوره في التعريف بكلاسيكيات الأدب العربي في الأوساط الجامعية والعلمية في الغرب، ونشره لسلسلة كتب أطفال باللغة الإنجليزية تربو على الأربعين كتاباً مستوحاة من روائع الأدب العربي، مما يقدم نموذجاً لقيم الأصالة والتسامح والتعايش الحضاري بين الشعوب."
وبذلك فإنه يمكننا اعتبار كتابه هذا بمثابة محطّات سيرية، دأبت على إضاءة جملة من القضايا الثقافية المهمّة إلى جانب سيرته الشخصية، ومن ذلك على سبيل المثال حياته في القاهرة إبّان المرحلة الاستعمارية، وانخراطه في حياتها الثقافية وبداية مشروعه الترجميّ لكبار كتّاب القصّة والرواية والمسرح آنذاك، حيث يتابع القارئ ذكريات المؤلّف في تلك المرحلة المهمّة من نهوض الأدب العربي الحديث، ويطلعه على كثير من الجوانب الشخصية لهؤلاء الكتّاب بدءاً من محمود تيمور الذي ترجم له كتاباً يضمّ مجموعة من قصصه بعنوان "أقاصيص من الحياة المصرية"، حيث يذكر المؤلّف أنه كان اعتاد لقاء تيمور بصورة منتظمة في مقهى الجمّال، أو في دعوات الغداء التي كان ينظّمها للكتّاب الناشئين الذين كان يرعاهم، وبذلك فإنه فتح له الطريق للتعرّف على عدد من هؤلاء الكتّاب، ومما يذكره في هذا الصدد أن محمود تيمور كان كريماً في رعايته للكتاب الشبّان، بما في ذلك دفع تكاليف طباعة الكتاب لدينيس، بالرغم من أنه لم يكن هناك اتّفاق بينهما حول ذلك.
أما توفيق الحكيم، فكان يجلس معه صباحاً خارج مقهى "ريتز" ، وكان قد قرأ كتابه "يوميات نائب في الأرياف" وساورته الرغبة في ترجمة الكتاب إلى الإنجليزية، غير أنه فوجئ بأن الكتاب ترجم من قبل "أبا إيبان" الذي سيصبح وزير خارجية "إسرائيل" لاحقاً، مما دفع به لتقديم هذه اليوميات إلى جمهور هيئة الإذاعة المصرية، ولكن هذا التقديم سيجلب له مشكلة كبيرة كادت ترحّله من مصر، نظراً لغضب الملك فاروق مما بلغه أن دنيس ينتقص من شأن مصر بذكره أن اليوميات صوّرت حياة الفقر الذي عاش في ظلّه الكثير من الفلاحين المصريين.
وإلى ذلك يذكر المؤلّف أنه ترجم مسرحية "يا طالع الشجرة" ونشرت من قبل دار نشر جامعة أكسفورد، ثمّ نشر أربع مسرحيات أخرى في سلسلة "مؤلّفون عرب" التي كان يشرف عليها، وفي هذا الصدد يذكر المؤلّف بكثير من المرارة أن أياً من هذه الكتب لم يدرّ ما لاً يذكر سواء عليه أو على المؤلّف، ولكن فيما يبدو من السيرة، أن القدر كان يدفع به على الدوام باتجاه الشرق الأوسط والترجمة، ومن المؤكّد أن هذه المصادفة القدرية ستكون من حظ الأدب العربي الذي قيّض له مترجم ذو نزعة رسالية لا يأبه للصعاب التي كانت تعترضه سواء في نشر المادة المترجمة، أو في التعامل مع الناشرين المتبرمين دائماً، هذا بالإضافة إلى الصعاب السياسية وظروف الحرب والثورات وغير ذلك.
وقارئ هذه الذكريات لا بدّ له أن يلاحظ أن مسيرة دنيس جونسون ديفز الترجمية، رافقت مسيرة الأدب العربي الحديث والمعاصر، فهو منذ أربعينيات القرن العشرين مقيم في الشرق الأوسط وعلى تماس مع مثقفيه الأعلام، حيث يفرد مساحة مناسبة لكلّ واحد منهم بكثير من الودّ والموضوعية، فبالإضافة إلى من ذكرناهم نجده يقف عند كلّ من: نجيب، لويس عوض، يحيى حقّي، يوسف إدريس، الطيّب صالح، إدوار الخرّاط وغيرهم. لينتقل بعد ذلك إلى العراق في عمل لدى إحدى الشركات، وسيمضي هناك وقتاً لا بأس به مع جبرا إبراهيم جبرا وبلند الحيدري وبدر شاكر السيّاب ولميعة عباس عمارة، ومن خلال لقاءاته بجبرا في لندن سيتعرف إلى توفيق صايغ الذي كان يعمل آنذاك محاضراً في مدرسة الدراسات الشرقية والأفريقية.
وكان المؤلّف إبان إقامته في لندن قد أصدر مجلة أدبية سمّاها "أصوات" صدر منها اثنا عشر عدداً، ساهم الكثير من الكتاب والشعراء بها، ومنهم توفيق صايغ، والسيّاب وغسّان كنفاني وغيرهم، وفي معرض حديثه سيتعرض إلى قضية مجلة "حوار" التي أثيرت عنها أقاويل شتّى لجهة تمويلها، حيث يذكر المؤلّف أن الأمريكي جون هانت مندوب منظمة "مؤتمر الحرية للثقافة زاره في أوائل الستينيات، وأبلغه انه يفكّر في إصدار مجلة ثقافية باللغة العربية، وإسناد رئاسة تحريرها إلى يوسف الخال صاحب مجلة "شعر" في ببيروت، إلاّ أن المؤلّف سيقترح عليه توفيق صايغ، وفي هذا الصدد يقول: كنت اعرف أن توفيق إنسان صعب المراس، وأعلم أنه لن يوافق على أي شيء إلاّ على الحري الكاملة في كلّ ما يتعلّق بالتحرير." وصدرت هذه المجلة بالفعل ولقيت قبولاً حسناً، إذ تضمنت أعدادها الأولى رواية "موسم الهجرة إلى الشمال" للطيّب صالح بكاملها، غير أن الكثيرين في العالم العربي كما يذكر المؤلّف لم يكونوا سعداء حيال راعيها الرسمي، الأمر الذي منعه وجبرا من الكتابة فيها، وعندما سألهما توفيق عن السبب أخبراه بأن الشكوك تساورهما بشأن الراعي، وأنهما ليسا في وضع يخاطر معه بالكتابة لمجلة ينظر إليها الكثيرون بعين الشكّ. ولم تنقض أشهر على هذا الحديث، حتى انكشف أمر تمويل منظمة "مؤتمر الحرية الثقافية" التي كانت ترعى مجلة "حوار" من قبل المخابرات المركزية الأمريكية، وهكذا فإن جام الغضب سوف يندفع باتجاه توفيق صايغ واتهامه بأنه جاسوس أمريكيّ.
وإبان إقامته في بيروت سيتناول المؤلّف تجربة مجلة "شعر" التي كان يمتلكها يوسف الخال ويشير إلى أن ربطت بينهما صداقة مكّنته من التعرّف على الكثير من الكتّاب اللبنانيين، ومما يذكره في هذا الصدد عن شخصية يوسف الخال، أنه كان يستبدّ به عشق الحياة، وكانت شقّته تمتدّ أمامها حديقة صغيرة مليئة على الدوام بالكتاب اللبنانيين، وغير اللبنانيين الذين كانوا يؤمّون بيروت حينها، وبذلك فإنه سوف يتعرّف على الكاتب المغربي محمد زفزاف، وزكريا تامر الذي على حدّ تعبيره، تبيّن أنه واحد من أفضل كتّاب القصّة القصيرة باللغة العربية، أطلقه يوسف الخال من خلال إصدار مجموعته الأولى "صهيل الجواد الأبيض"، وفيما بعد وفي لندن سيترجم له "النمور في اليوم العاشر".
ولعل المحطّ الخليجية في ذكريات المؤلّف تشكّل مرحلة مهمّة في حياته، إذ يذكر أنه قضى جانباً من حياته بدولة الإمارات العربية المتحدة فالتقى كلاً من المغفور له الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم، والمغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، وذلك بعدما اقترح عليه عز الدين إبراهيم العمل على ترجمة إنجليزية لبعض كتب الحديث النبوي الشريف، وقد دعم الشيخ زايد رحمه الله هذا المشروع، كما قام بالتعاون مع حكومة الشارقة في مشروع مماثل يتلخّص في إنتاج تسجيل للقرآن الكريم على شرائط كاسيت، وفي هذا الصدد يقول أيضاً: "قضيت جانباً من حياتي في الخليج، وبصورة أكثر تحديداً فيما أصبح الآن دولة الإمارات العربية المتحدة، وقد أردت منذ وقت طويل أن أقدّم مجلداً من القصص القصيرة من هذه.
ومما يجدر التنويه إليه في الختام أن الأديب المصري نجيب محفوظ حائز جائزة نوبل، قدّم لهذا الكتاب قبل وفاته، حيث نوّه إلى أنه يعرف المؤلّف منذ عام 1945، وهو أوّل من ترجم عملاً له، ثمّ ترجم العديد من رواياته، وختم قائلاً: "والحقيقة أن دنيس بذل جهداً لا يضاهى في ترجمة الأدب العربي الحديث إلى الإنجليزية وترويجه.. يسعدني كثيراً أن كتب دنيس هذا الكتاب البالغ الروعة، وأتمنى أن يحظى قارئه بنفس القدر من السعادة الذي حظيت به من معرفتي بمؤلّفه على مدى ستين عاماً."
*ذكريات في الترجمة، دنيس جونسون ديفز،تقديم: نجيب محفوظ، ترجمة: كامل يوسف حسين، اليربوع للطباعة والنشر والتوزيع، دبيّ، 2007
*بيان الكتب
[/FRAME]
السيد عبد الرازق غير متصل   الرد مع إقتباس