عرض مشاركة مفردة
غير مقروءة 25-04-2008, 12:47 PM   #2
السيد عبد الرازق
عضو مميز
 
تاريخ التّسجيل: Apr 2004
الإقامة: القاهرة -- مصر
المشاركات: 3,296
إفتراضي

[FRAME="11 70"] وكلتا الحبيبتين في لحظة الشاعر الآنية تلتقيان في أنهما أبعد من أن تـُنالا ، أو أن تـَقـَعا في دائرة الرؤية البصرية ، أو في مجال الإدراك الحسيّ للشاعر ، وإن كانتا ملء الـقـلب والبصيرة ، وهذا هو الأمر الذي يجعـل الشاعر بـينهما " قصيدة شهيدة وجثة ألقى بها العشق إلى مقبرة الأوراق" بكل ما يحلـّق في فـَلـَك هاتين الصورتين من معاني الشفافية والطهارة وهالات القداسة الروحية ، وإيحاءات الموت المجازي ، والعشق المُـحبَط ، الذي ما يلبث أن يغدو سطورا ً محنطة ً في دفتر ، تصوّر حياة ً إفتراضية بعدما أيْأسَـها وأعْنـَتـَها أن تصير على أرض الواقع حياة ً مكتملة ً ناضجة ، وكونا ً حقيقيا ً تكتسب فيه طموحات الشاعر وأمانـيُّـه تحققها وذاتيتها الحقة . وغير خاف ٍ ما في قول الشاعر " وها أنا بينكما " .. وهو التركيب الذي سيتكرر على نحو ٍ لافت ٍ في المقطعين التاليين ، وكأنه لازمة محورية تقرر في جلاء ٍ بينية َموقف الشاعـر
النفسي بين الحبيبة والوطن ، وأنه ماثـلٌ بينهما على الأعراف ، فلا هو سَـكـَنَ إلى صدر الحبيبة ، ودفء حضنها ، ولا هو قـرّتْ عيناه فاكـتحلتْ بثرى الوطن ، ونعمت بأفياء خمائله ، وأشذاء رياضه وجنـّاته ، وإنما هو على أعراف الوجد " حلمٌ مرتـَهَـن " ، وكونٌ معـلـَّق ! .

ثم ينتقل الشاعر في اللوحة الثانية إلى وجه آخر من وجوه هذا " التماهي " ، وهو في هذه المرة ، أو من هذه الزاوية الإدراكية " تماه ٍ " مع " الفرات " شقيق العراق ، وصنوه الوجودي ، العتيق ، العريق ، وشريان الحياة ، وعين الوجود في رؤية الشاعر ، متماهيا ً مع الحبيبة / الوطن ، بل ومتحققا ً وجوديا ً من خلال ذات الشاعر نفسه ، تحسّ ذلك من خلال قوله : " كلاكما يسيل من عينيّ " فالثلاثة الان الحبيبة / الوطن / الفرات والشاعر قد صاروا ذاتا ً واحدة ً ، تتجلى عبر مجال ٍ عدة ٍ ، وذلك عندما " يطفح الوجد " ويبلغ أقصى مداه ، وذروة تفجّره بنفس الشاعر ، ويحتدم هجير النفي والإغتراب ، " وتشتكي حمامة الروح " الطالبة السكينة ونعمى القرار من لظى المنافي ، وأوجاع التشرد ، في تلكم اللحظة يتمظهر ذلك " التماهي " في صورة جديدة ، من خلال أثره في نفس الشاعر ، وما يخلعه عليه من هويّة ٍ متشظية ٍمتكـسّـرة ٍ مستطارة ٍ في الأرض ، مُـغـَرِّبة في البلدان : المنافي ، فإذا هو " أمنية قتيلة ٌ وضحكة مدماة " تتحققان على نحو منكفئ عاجز ٍ حسير ، وتوجدان عَدَما ً نازفا ً " يمتدّ من خاصرة السطور حتى شفة الدواة " .

وتلحُّ على مخيلة الشاعر أطياف الطهر والقداسة ، صابغة آفاق صوره ، ورؤاه التشكيلية ، فيلوّن بها صورة الحبيبة / الوطن ، فكلتاهما " مئذنة " حاصرها الطغاة من الداخل ، والغزاة من الخارج ، فهي محبوسـة التكبير والتهليل ، مخنوقة النداء ، مشنوقة الصلوات ، ثم يقرر على نحو مكرر مؤكدا ً تشظـِّيه وتمزّقه بينهما : الحبيبة / الوطن ، ومثوله بينهما على نحو عَدَميّ هناك على أعراف الوجد تارة ً أخرى " وها أنا بينكما ترتيلة " معلقة في خاطر صلاة مؤجلة " في المدن السبات " . وليُـتأمّـل ما في هذا التركيب الأخير ، وما ينطوي عليه من احتراس ٍ ذكيّ يشي دلاليا ً بما يُجـِنـُّه من تفاؤل مستكنّ ٍ ، كما تستكنّ شذرات النيران تحت كـثبان الرماد ، فالمدن السبات ، على الرغم من إغراقها في غيبوبتها ، وفقدها وعـيها ، أفضل من المدن الموات ، فالنائم يُنتظر منه أن يصحو ، ويُرجى له أن يفيق ، مهما طالت غيبوبته ، ولو قال مثلا ً : ألموات بدل السبات لـَدَلَّ ذلك على تشاؤمه ، بل على يأسه ، وقنوطه المستغرق ، من التغيير ، وانبثاق فجر الإشراق والتنوير ، وهو ما لم يفعله الشاعر ، وهذا الصنيع يدلُّ على مدى دِقـّـته التعبيرية ، ويقظته في تشكيل أبعاد رؤيته الشعرية ، وتجربته النفسية .

ثم ينتقل الشاعر في المعرض الثالث من معارض هذ " التماهي " بين الحبيبة وملامح الوطن وقسماته المائزة ، وهو في هذه اللوحة المشهدية بين الحبيبة و " النخيل " رمز الشموخ والخصب والعطاء والتحدي ، فبينهما " قرابة " وآصرة رحمى ، تعززها وتوثق علائقها صور الحاضر ، ومشاهده الدامية المروّعة ، وصرخاته المعولة ، فكلاهما ينام " في ذاكرة العشب " وأزمنة الإخضرار الجميل ، ويفيق على صرخات الرّوع والفزع ، وإعوال الثـكل ، وبكاء اليتم ، ومشاعر الفقد والضياع ، وشاعرنا بينهما على الأعراف من جـديد مطموس الهويّة ، مقطوع الوشـيجة ، ضائع الملامح والقـسـمات ، " وها أنا بينكما صبحٌ بلا شمس ٍ " ينتظر تحققه وخلاصه وانعتاقه ، و " ليل ٌ ميَتُ النجوم والقنديل " ضلـّت هواديه ، وتاهت علاماته ، في حلكة الظلم والعسف البهيم .

ويظهر هنا بجلاء طغيان عاطفة الأسى ، وغلبة مشاعر اليأس على الشاعر من خلال قوله : " وليل ميت النجوم والقنديل " فلقد قرر الشاعر صراحة موت النجوم والقناديل في نفسه ، وهي عبارة تدلُّ على يأس ٍ مُـهلِك قـتـّال ، فلقد انطفأت في نفسه صورتا الإشراق والهداية ِ علويّة ً كانت ممثلة في " النجوم " أو أرضية ًممثلة ً في " القنديل "

ولكنه على الرغم من ذلك يعود فيؤكد من جديد في المقطع الأخير الذي تتماهى فيه " نخلة عمره الهرمة منذ الميلاد بالنخلة البغدادية " بقاءه مصلوبا ً بين جذره البغدادي ، بكل ما تعنيه كلمة الجذر من ثبات الأصل ورسوخه في تربته : رحم النطفة الأولى ، وإن كان يرتضع منه وحْـلَ الرعب ، ويعـبُّ من مستنقع عسفه وذلـّه الآسن ـ والغصون في مهجره ومنفاه الأسترالي في أديلايد ، مبحرا ً في رحلة سندبادية عبثية غير نهائية تموج بالأهوال والمخاطر بين " الموت والميلاد " .

وليُـتـَأمَّل بصورة خاطفة سِـرُّ تقديم الموت على الميلاد في هذا السطر الختامي الأخير في القصيدة ، ولا يقولنّ قائل : إن ذلك لمحض حرص الشاعر على القافية ، وإن كان ذلك كائنا ً من بعض الوجوه ، ولكن المعنى الأعمق المقصود والمُـرمى إليه في هذا التعبير إنما هو البدء بالموت / الرعب والفزع ، وإن كان ذلك من نقطة الميلاد الحقيقية ، إلى الميلاد / الموت / النهاية / البداية الحقيقية للإنعتاق وخلاص الروح من إسار المنافي الجسدية تارة ، والكونية تارة أخرى .

وفي هذه القصيدة ـ كما رأينا ـ يتجلى مدى إحسان الشاعر وإجادته اختيار عنوانها ، بوصفه فسطاط القصيدة ، أو عمود خيمتها الذي تـُشـَدُّ إليه كافة خيوطها ، ويهيمن على آفاق الرؤية فيها ، مُشـكـِّـلا ً فضاءاتها وأبعادها الدلالية ، وكذلك تتفرّع عنه هذه التماهيات عبر العديد من المجالي ، منها تماهي الحبيبة بالوطن العراق / الفرات / النخيل ، وتماهي ذلك كله بذات الشاعر ، وتجلـّيه من خلالها ، وتجليها هي الأخرى من خلاله ، وانعكاسها من خلال شعره كله صورا ً رائعة الجلاء ، رقراقة اللحون والأصداء .

وثمة في هذا السياق ثلاثة ملامح فنية يجدر بنا أن نسجلها قبل أن ندع الحديث عن قصيدة " تماه ٍ " لكونها مياسمَ أسلوبية ً أصيلة ً ولافتة في تجربة هذا الديوان من الناحية الفنية .

أما أولها : فهي أن هذه القصيدة يمكن نسبتها من حيث الشكل الفني والمعماري إلى ما أسمته نازك الملائكة باسم " الهيكل الذهني " الذي " ينتقل فيه الذهن من فكرة إلى أخرى خارج حدود الزمن " ، وهذا هو الهيكل الأنسب لموضوع القصيدة وفكرتها ، لغلبة النزعة الذهنية عليها ، وحرص الشاعر على حشد ألوان التماثـل بين محاور الرؤيا فيها ، من خلال الآلية التي اتبعها في مقاطع القصيدة ، وهذا هو الهيكل الذي ناسبه ذلك الختام الذي بلغ ذروة التوتر والإحتدام العاطفي والإنفعالي في المقطع الأخير الذي قرر فيه الشاعر تمزّقه على نحو مأساوي بين هذه المجالي ، على الرغم من تعددها ، وبُعْدِ ما بينها بُعْدَ وضاح المشارق عن غائر المغارب .

وأما ثاني هذه الملامح الفنية : فهو آلية التكرار ، وقد تنوّعت هذه الآلية في شكولها في القصيدة ، ما بين تكرار اللفظة المفردة " بينك والعراق .. بينك والفرات .. بينك والنخيل .. " وتكرار التركيب كما في قوله : " وها أنا بينكما ... " وتكرار النسق النحوي ، والهيكل الفني على الجملة في كل مقطع ، وقد تجلى ذلك من خلال آلية بنائه لكل مقطع يستهله بالظرف " بينك .. " وما أضيف إليه ، ويستتبعه ، من ملابسات إسـنادية ، ولواحق متماثلة في طريقة التركيب النحوي ، حتى نهاية المقطع وختام المشهد ، وهذه الطرائق الثلاث من التكرار شديدة التناغم والتساوق فيما بينها ، فتكرار المفردة كان سبيلا ً وفاتحة للتنوع المشهدي ، والتنوع المشهدي جاء متضمنا ً ومشتملا ً على طائفة من ألوان التكرار في التراكيب والصياغات الداخلية ، وما ذلك كله عند التأمل إلآ إفصاحا ً ضمنيا ًعن رغبة ٍ ملحّة ٍ ، مسرفة ٍ في الإلحاح ، من الشاعر على المستويين : الذهني والنفسي ،تجاه الحبيبة الوطن ، وما قد صارا إليه من كونهما وجهين لحقيقة واحدة ٍ ، يبرهن على ذلك بما وسعه من الوسائل الفنية ، والتقنيات التشكيلية .

وأما ثالث هذه الملامح : فهو توظيف الشاعر البارع لآلية اللعب الحرّ على المتقابلات لنقل إحساسه بحدّة المفارقات في تجربته الشعرية ، وهي آلية طالما نوّع شاعرنا ، وينوّع عليها بنجاح ٍ فني ، كما في مثل قوله : " نـَسَغ احتراق .. أمنية قتيلة .. وضحكة مدماة .. وترتيلة تنتظر الصلاة .. وصبح بلا شمس .. وليل ميت النجوم والقنديل " وكما سنرى لاحقا ً في مواضع عديدة من نماذج هذه المجموعة الشعرية .


* صفحات مقتبسة من دراسة قيد الطبع للباحث حول تجربة الشاعر العربي الكبير يحيى السماوي في العشق والإغتراب .. ديوانه " قليلك لا كثيرهنّ " نموذجا






[/FRAME]
السيد عبد الرازق غير متصل   الرد مع إقتباس