عرض مشاركة مفردة
غير مقروءة 02-08-2008, 03:10 PM   #12
السيد عبد الرازق
عضو مميز
 
تاريخ التّسجيل: Apr 2004
الإقامة: القاهرة -- مصر
المشاركات: 3,296
إفتراضي


بغداد الحبيبة




كاتب الموضوع: زيد الشهيد - 29-08-2006


قصة مترجمة



زهرة الهيبسكس أو زهرة الخزامى Hibiscus



تأليف : ميشال أنتوني *



ترجمة : زيد الشهيد



_ هل أنتَ منفعلٌ ؟ بادرتني عمّتي بالسؤال ووجهها رغمَ ابتسامته يبدو أشدَّ سمرةٍ . كان الموقف أشدُّ تأثير عليها منّي .



_ نعم ! .. قلتٌ .



_ سأٌحضر لكِ كلَّ شيء . لن تحتاج لملابسَ كثيرة ؛ وبحلول عيد الفصح ستكون هناك .



لذتُ بالصمت . لم أكنْ راغباً في الكلام : ولم أكن مبالياً سواء وصلت إلى هناك أم لا . بقيتُ مستلقياً ومصوباً نظري نحو السقف ، أو متأملاً عمّتي أحياناً ، أو متطلِّعاً لِلابسات البياض وهنَّ يذرعنَ ردهات المستشفى .



_ لن يبقوكَ طويلاً ؛ أتعرف ذلك ؟ .. تكلّمت عمّتي



_ كلاّ . .. قلت .



_ ألا تريد الذهاب ؟



_ اذا كنتِ لا تريدينني أن .....



_ كلاّ ! يجب أن تذهب . قاطعتني : فالأفضل لكَ سيما وأشعةُ الشمس على أحسن ما تكون هناك .



_ حسنا .



_ تبدو اليوم أفضل من قبل .



رحتُ أٌسمِعُها ما أخبروني به فيما راحت تنصت باهتمام ؛ ثم تُردد : ذلك حسن !! وتسألني سعياً لمعرفة كل ما قالوه . وما أخبرتها عنه تركَ أثراً وانطباعاً شديدين في نفسها ... كان التهاب الرئة الذي لازمني قد ولّى بغضون ثلاثة أسابيع . ألقت عمّتي نظرةً على الساعة المرتكنة على الحائط . ولّما أدركت قرب انتهاء وقت الزيارة شرعت باخراج ما جلبته من حاجيات . وضعت حقيبة يدها على فراشي ، متابعةً تأثير كل حاجة تستلها : ثمرة البناناس ، حلوى ، عصير البرتقال ، عصير العنب . رتَّبتها على المنضدة المنتصِبة عند حافة السرير المجاور لرأسي . كنتُ قد أُطعِمتُ من الحلويات مرةً واحدة خلال اقامتي في المستشفى . أمّا ثمار البناناس فكانت تثير شهيتي بحض الأحيان . حاولت ابداء سروري لكنّي كنتُ من الضعف ما لم أستطع فعل ذلك .



_ أتحب عصير العنب ؟



- أجلبتِ منه شيئاً ؟



_ نعم ؛ علبة صغيرة .



في الواقع لم أكن أحب عصير العنب .... حدّقت بي وقالت : إنّه جيد ومناسب لك .



_ لا تتعبي نفسك ؛ ولا تجلبي أشياءَ كثيرة بعد الآن .



استمرّت تخرج حاجيات أخرى ، بسطتها بعيداً عنّي . وللحقِّ أقول أنها لم تكن تثير اهتمامي لأنّ أفكاري كانت تطوف بعيداً من هنا .



_ أتيتُكَ بشيءٍ تقرأهُ .



دسَّت كفّها في جوف الحقيبة مخرجةً كتاباً صغيراً مغلَّفاً بورقٍ أملس وصقيل ، رُسمت على غلافه صورة زهرةٍ في زهوِ تفتّحها ": " حكايات من الهنود الحمر " .. رددّت عمّتي .



سرّني ذلك وأنا أهمُّ بتعديل جلستي . أمسكتُ بالكتاب وأنا أبصر عمّتي تُبدي ابتهاجاً :



_ أتصدِّق أنْ ثمّة كتباً تحكي قصص عن الهنود في هذه البلاد ؟



_ كلاّ .



_ حسناً .. عندك الآن هذا ؛ تسلّى به ولكن لا تقرأ كثيراً .



انتهت الزيارة لحظة رنَّ من بعيد جرسٌ خافت الصوت فشرع الزائرون ينسلون خارجين فيما نهضت عمّتي من على سريري ، قائلةً :



_ سأكتب لهم محددِّة موعد ابحارِكَ إليهم . طبعاً ذلك يعتمد على رأي الدكتور .... توقفت قليلاً قبل أن تكمل : بأي زورقٍ تود السفر ؟



_ هيلدا براند .



انحنت ؛ مقرِّبةً وجهها من وجهي كما لوكانت تبغي تقبيلي :



_ ربّما سيكون هيلدا براند مرّةً أخرى .



ضغطت يدي قليلاً ثم غادرت :" سأراك غداً مساءً " ... توقّفت عند الباب . مالبثت أن غابت خلفه .



وكالعادة ما أن تركتني عمّتي حتى ابتدأت أفكِّر بحسنِ صنيعها رغم أن ذاكرتي لم تكن تسعفني كثيراً إذْ الجو المشبّع بالعقاقير وزرق الابر المتوالي يعكّر عليَّ صفوَ تفكيري . ومع هذا لا اقدِّر كم هي رائعة عمّتي معي ، وكم كنت المفضّل لديها في البيت . أتذكّر أنها طلبت حضوري إلى جانبها حالما رحَلَت إلى انكلترا . أمّا الآن وفي حالتي المرضية هذه ، ونزولاً عند نصيحة الطبيب ارتأت ارسالي إلى عائلتي مدّة شهرين بينما استمرَّت تزورني هنا يومياً حاملةً الحلوى والباناناس والبرتقال ... سحبتُ الكتاب متطلِّعاً فيه . أدركتُ سرَّ الزهرة المرسومة على غلافه فابتسمت . كان العنوان مثبتاً منحوتاً بكلمات سوداء كبيرة في المساحة العليا من الكتاب " زهرة الهيبسكس " وقصص أخرى . وفي حافته السفلى كان اسم المؤلف سي.سي . ماثيوس . تمعَّنتُ بالزهرة مليّاً فعرفتُ أنها لشجرة الهيبسكس ؛ الشجرة التي تنتشر على امتداد جزيرة " ترينيداد " وعرضها ؛ وفي مقاطعة " مايارو" تحديداً . لم تكن تثير أحد من قبل باستثناء مؤلِف هذا الكتاب كما أظن .



في الصفحة الأولى طالعتني كلمات اهداء إلى " ماريانا " ، ودونها عبارات لا تينية مقتبسة " ربّما ماريانا قد درست اللاتينية " قلت في سرّي . أناس كثيرون درسوا هذه اللغة ؛ وكان كرهي لها يفوق كرهي لعصير العنب الأسود . الصفحة التي قلبتها أطلعتني على الفهرست :



1- هيبسكس 2- طريق الشمس الساخنة 3- شجرة اللاتا 4- عُد إلى الجزر 5- أسفل النجوم المدارية 6- طعنة حب كارب











أغلقتُ الكتاب ورحتُ أحدِّق في زهرة الغلاف مجددَّاً . وجدتها تأتلق رائعةً كما لو أنَّ المؤلف صرف وقتاً من قصة : أسفل النجوم المدارية : ليرسمها تحت " شجرة البلاتا " ملوِّناً أوراقها بحمرة الدم الكثيف المأخوذ من " طعنة حب كارب " .



غب مرورها على أسرِّة المرضى تباعاً اقتربت الممرِّضة من سريري ممسكةً بالمحرار كعادتها . أنحيت الكتاب جانباً وأنا أعوم في غمار دهشة أثارتها عناوين القصص في مخيلتي . يداي ترتجفان قليلاً ما جعلتا الممرضة تبتسم وهي تدنو مني ، وتدفع المحرار إلى فمي في اللحظة التي ألقت بنظراتها على الكتاب .



_ هل تقرأ هذا ؟



_ نعم . أجبتُ باحراج سيما وهي الممرضة التي اعتادت استفزازي بعبارات مضحكة .



_ انظروا إلى هذا الولد الصغير . قالت بسخرية ، وأكملت : يقرأ قصص الحب .



_ كلا !



_ أنتَ قلتَ لي ذلك . نصوص تعجُّ بقصص الحب ... هتفت باسلوبٍ مخادع .



_ كلا... كلا ..!



كانت عيناها سوداوين وواسعتين تطلقان نظرة حاقدة ، وتبعثان وقاحة ظاهرة . سدرت تقلّب الصفحات . اندفعت في محاولة شرح الأمر لكنها لم تتح لي فرصةً لذلك واضعةً اصبعها على شفتيها طالبةً عدم فتح فمي خشية سقوط المحرار . ألقت لمحةً على ساعتها قبل أن تسحب المحرار ، محاولةً معرفة ردَّ فعلي .



مالت هامسةً في أذني :



_ هلاّ أعرتني إيّاه ؟



دسسّتُ رأسي أسفل الوسادة وانفجرت ضاحكاً من دون أن تراني .



وحالما عمَّ الردهةَ الهدوء وتركتني الممرضة لاتمام دورتها شرعتُ أطالع الكتاب . ولشد ما غمرتني الدهشة وأنا أقرأ قصة " هيبسكس " عندما وجدتُ أحداثها ومشاهدها تدور في قرية " ماريانا " ؛ قريتي أنا بالذات . القصة تحكي عن فتاة صغيرة يانعة اعتادت المجيء لملىء دلوها من عيون ماء صافية عبر أرض معشوشبة ، مطلقةً صوتها الرخيم بغناءٍ عذب لصديقاتها زهيرات الهيبسكس اللاتي يبادلنها الحب وهي تصف جمالهنّ الساحر . وكان غناؤها كافياً لجعل الزهور أكثر احمراراً ، أمّا بسبب خجلهنّ أو لفرط سرورهنَّ . وحالما تقترب الطيور الطنّانة ** الساعية لامتصاص الرحيق تُعلمها الزهور بما غنَّت الفتاة . عندها يطلبنَ من الطيور مقابل اهدائهنَّ الرحيق اظهار المودَّة لها ، في حين تقدّم الطيور وعداً للفتاة بجعل الزهور أشد احمراراً وأكثر نصاعة بفعل هفهفة أجنحتها على أن تستمر الفتاة بأغانيها المؤثِّرة الجميلة .



تركت القصةُ بعد قراءتها أثراً عميقاً في نفسي . عادت بي الذكرى للأرض الخضراء والطريق الممتد عبر أشجار الهيبسكس ، المنحدر صوب ينابيع المياه الصافية . إنَّ الطريق الذي كتب عنه المؤلف ماثيوس جعلني أقرَّ أنّه لا بدَّ وأن يكون قد عاش في قرية " مايارو " ، وأنّه يعرف تفاصيل المكان عن كثب . جهدتُ في محاولة تذكُّر شخصاً بهذا الاسم أو فتاة تدعى " ماريانا " . لا بدَّ وأن تكون هناك فتاة قد مرّت مراراً من أمام بيتنا ، حاملةً دلوها الصغير نازلةً باتجاه الينابيع . حاولت استذكار ولو واحدة من أغانيها ففشلت . لم أكن قادراً على تذكّر أية أغنية . ينبغي مقابلة ماثيوس والتحدث معه حول أزهار الهيبسكس الحمراء ؛ وأظنها ستزداد احمرارً لسماع حديثنا .



قرأتُ القصة أكثر من مرّة ، وبشعور سعيد وغامر واصلتُ مطالعة بقية القصص فأعجبتٌ باسلوبها الجميل ولغتها المثيرة رغم الغرابة التي تغلفها . فقصة " أسفل النجوم المدارية " تعكس شعوراً غير مألوف للأنوار المتلألئة في حلكة السماء وارتفاع أشجار النخيل المنشغلة أوراقه بالحفيف الهامس على امتداد الشاطي المزبد . وحين قرأتُ " عُد إلى الجزر " بدت لي كما لو أن جميع هذه الأشياء تدعوني للعودة ! " سأعود لا محال ! لم أعد قادراً على الامتناع عن العودة . وما أن تحضر عمّتي حتى أبوح لها برغبتي في الزيارة . " لكن بعد قراءة قصة " طعنة حب كارب " اعترتني حالة ارتباك وخجل . اكتشفتٌ أنّي أقرأ عن الحب فعلاً ولم تكن الممرضة كاذبة .



مررتُ عبر قصص المجموعة بيد أن " هيبسكس " ظلّت عالقة في مخيلتي ، وجعلتني أعود لقراءتها كلّما انتهيت منها ، وباتت " ماريانا " وسي. سي ماثيوس يحتلان حيّزاً كبيراً في رأسي حتى غدوت سعيداً لعودتي إلى الوطن عبر البحر مرّةً أخرى . تساءلتُ : هل عبرت ماريانا البحر مرّةً ؟ " .. ربّما . وربّما هو الذي دفع ماثيوس لكتابة " عٌد إلى الجزر " . شعَّ ضوءٌ مباغت في رأسي . غدوتُ متلهفاً لحضور عمّتي . لا بدَّ ستتذكّر شخصاً في قرية " مايارو " بإسم ماثيوس أو فتاة باسم ماريانا . غير أنَّ خيبة الأمل أصابتني عندما أخبرتني عمّتي أنها غير متأكدة من معرفة رجل يحمل اسم ماثيوس ؛ أمّا ماريانا فربما تكون موجودة حقّاً . إنَّ أربعة أعوام بعيدةً عن القرية كافية لأن تٌنسِيها الكثير من الأسماء . انشغلت بإعلامي أن أهلي متشوقون لعودتي ، وقد وعدوا بأن لا يجبروني على البقاء عندهم بل سيتركونني أعود إلى انكلترا . كانت عمّتي واثقة بهم إذ أبرزت أمام وجهي تذكرة العودة مثلما أخبرتني بتفاهمها مع الدكتور لاجراء ترتيبات خروجي من المستشفى .




السيد عبد الرازق غير متصل   الرد مع إقتباس