عرض مشاركة مفردة
غير مقروءة 12-04-2008, 10:25 PM   #20
السيد عبد الرازق
عضو مميز
 
تاريخ التّسجيل: Apr 2004
الإقامة: القاهرة -- مصر
المشاركات: 3,296
إفتراضي

وجها لوجه – حوار مع عبدالله البردوني في مجلة العربي عدد504 - نوفمبر2000

(عبدالله البردوني وعلي المقري)

لا رواية جيدة في بلد لا يوجد فيه شعر جيد

لم أعترف بالعمى في أي لحظة في حياتي
ليس بعد الحداثة والأحدث إلا الشيخوخة ثم الموت
درست الفقه وكنت وكيلاً للنساء المطلقات
البشرية تحتاج إلى الفنون كلها وليس الرواية فقط
ربما يمثل هذا الحوار الوصية الأخيرة لشاعر راحل عرف من الحياة بؤسها أكثر مما عرف من مجدها وزهوها. فهذا الأعمى الذي رأى كل شيء حوّل ظلمته إلى عالم أسطوري حافل بالرؤى والنبوءات. لقد عاش عبدالله البردوني في اليمن مهد اللسان العربي وموطن بلاغتها, لذلك فقد كان شعره تعبيراً عن وعي جمعي متراكم من أجيال من الشعراء العرب هاجروا مع قبائلهم من مأرب, واستقروا في صحراء العرب حتى جاءت رسالة البعث الإسلامي فحملوها إلى كل مكان.

ويوصف البردوني بأنه آخر الشعراء العرب الكلاسيكيين الكبار, وأبرز المتميزين في كتابة القصيدة العمودية, وله اثنا عشر ديواناً صدر أولها في عام 1961م, وله ثمانية كتب تتناول تاريخ اليمن المعاصر السياسي والثقافي والاجتماعي.

وأجرى الحوار في صنعاء الشاعر والصحفي اليمني علي المقري, أحد أصوات جيل الثمانينيات الأدبي في اليمن, صدرت له مجموعتان شعريتان وعدد من الأبحاث.

وكان الحوار قد أجري معه قبل وفاته (يوم 30 أغسطس 1999م) بعشرة أيام بحضور الشاعر أمين العباسي.

العمى والفقر

تثير سنوات طفولتك الأولى الكثير من الاندهاش, إذ كيف لطفل أن يفقد البصر ويواصل مكابدته في كثير من الأعمال ليصل إلى ما هو عليه من المكانة الأدبية, نرجو أن تعود بنا لنتعرف على ذلك الضوء الذي كان يدلك على السير في عتمة المكان ?
- العمى أصابني وأنا صغير جداً, في السنة الخامسة أو السادسة من عمري, وكانت بدايته أن عُميت عين نهائياً, وعين بقي فيها شيء يعرف البصيص, فمثلاً إذا صحوت من النوم ورأيت دخول الضوء أعرف أن الصبح قد أطل, وأرى إذا وجد في المكان سراج, وبعد فترة أصابتني ضربة شمس وصداع فانطفأ ذلك البصيص.

وما عميت إلا وقد كان عندي دراية بالحركة, أين أصعد إذا كانت أمامي صخرة, وكيف أنزل من الصخرة, فبقيت في ذاكرتي تلك الأماكن التي كنت أروح وأغدو منها وإليها, ولأن الطريق إلى المسجد الذي بجواره المعلامة (الكتاب, ويتم فيها تحفيظ القرآن), كان شاقّاً اندهش الناس في القرية (البردون), فهناك مكان اسمه (صفي الجبهة) فيه البيوت متراصّة من هنا وهناك, كان الناس في الرابعة (عصراً) إلى السادسة يتجمّعون فيه. فمنهم من يطعم ثوره ومنهم من يطعم جمله أو يعلف بقرته. ولأن بعض أطراف الثور أو غيره تكون في الطريق, فقد كانوا يتعجّبون لأنني كنت عندما أمر أدهف الثور وأمشي.

وكانت النساء بشكل خاص يقمن بجر الثور أو البقرة إليهن من أجل أن أمشي, وكان خالي حسين علي فقيه ـ وهو شاعرـ يضيق مني, ويقول لي: (احتكم... احتكم) وهذه الكلمة يقولها بعض الكهول للكهل إذا أصيب بالعمى, أما أنا, فكيف (أحتكم ?), أنا كنت غير معترف بالعمى, وألعب حينما يلعبون, وكان الدم لا يجف من بنان قدمي, أكدف هنا وأضرب رأسي هناك, وكانت أمي تربط أصابعي بخيط أحمر (كحرز) يقيني ضربة حرّاء, كما تعتقد, والسبب أن الأحجار الناتئة تقع عليها رأس الأصبع فتدمى, كما أن ضرب رأسي يكون في جدار قام حديثاً أو بني ليلاً وضحى, وما مررت عليه سابقاً.

وكان يسرني إذا ما أنزلني أبي إلى (المعلامة) لأنه كان يمر بطريق خلفية سهلة, فينزل من حجر أملس, ويطلع إلى حجر وينزل من ثان, وإذا بنا نشم رائحة الحارة حيث نكون في باب (المعلامة).

وقد ظللت أفكر كيف سأعرف هذه الطرق, وهممت مرة بعد مرة.

إذن, استقيت معارفك الأولى, بعد العمى, بواسطة (المعلامة) ?
- نعم, بواسطة (المعلامة) قرأت ما يسمى بجزء البياض, وهذا الجزء هو قراءة الحروف وكتابتها في لوح على مداد أبيض وقلم (مبري).

وبالنسبة لي كنت أحفظ الحروف دون كتابتها, وكنا نقرأ الحروف قراءة إنشادية, فيها شيء من الإطراب, تشبه الإنشاد الذي يصاحب الجنازة من قبل الأطفال, فهؤلاء في اليمن إذا تقدموا الجنازة يحوّلون الإنشاد الجنائزي إلى موسيقى فريدة.

وعندما انتقلت إلى المدينة (ذمار) وأنهيت فيها حفظ القرآن تجويداً, انتقلت - أيضاً - من (المعلامة) إلى (المدرسة الشمسية), وهي جامع أسسه أو بناه شمس الدين بن شرف الدين الذي حارب الأتراك في القرن العاشر, وكان مرشّحاً للإمامة, لكنه أصيب بطلقة وحجرة, فكسرت رجله ثم جُبرت, فصارت فيه عاهة العرج مما حرمه من الخلافة التي تشترط في الإمام أن يكون سليم الحواس والأطراف.

عندما دخلت هذه المدرسة, شعرت أني بدأت غربة جديدة, فقد كنت في (المعلامة) أعلّم الأطفال المتخلفين في الحفظ وأكرر لهم وأكرر, وزيادة البنات, فأحصل بالمقابل على قطع من الخبز تكفيني يومي, إضافة إلى أن اثنين من الأساتذة قررا لي (بقشتين) في كل يوم.

هل هذا يعني أن عائلتك كانت فقيرة لم تستطع أن تعيلك في المدرسة الشمسية ?
نعم فقيرة, وكانت في (البردون).. ولم تستطع أن تعيلني, طبعاً, لكنها كانت تعيلني عندما كنت عندهم, ولكن كنت أحسّ أن إعالتي شيء ثقيل, وسمعت كلمات رديئة عندما عميت, قالوا: أعمى لا غرّام ولا رجّام, أي لا يقاتل مع القرية (رجّام) ولا غرّام يعطي نصيبا من النقود إذا كانت عليهم غرامة.

وأذكر أنني ظللت في (المدرسة الشعبية) شهراً في جوع قاتل.

وخرجت مرة وفوجئت في (معلامة) هناك, فيها واحد اسمه سيدنا أحمد دادة, فدعاني وقال لي: كم ستبقى تقرأ (تتعلم) كل يوم ? فقلت: يا سيدنا ما نفعل ? قال: هيا لتعمل ساعتين أو ثلاث ساعات ? تعلم هؤلاء (الطبول عيال الفراعنة الذماريين), وكان بذيئاً لا يتكلم إلا شتماً. فعهد إليّ بخمس بنات أعلمهن في الصباح.

محامي المطلقات

على الرغم من أنك نشأت في بيئة ثقافية تقليدية - خاصة في مجالي الشريعة والأدب - قيل إنك في عملك الأول كمحام (وكيل شريعة) في الأربعينيات اتخذت اتجاهاً مغايراً, وهو الدفاع عن النساء المطلقات وقضايا المرأة عامة, كيف استطعت الخروج من صرامة الفقه وقيوده ?
- المسائل الفقهية من يفقهها جيداً لا يجدها قيوداً, فيقدر أن يتعامل معها في مجتمع يبني عليها تفكيره وبيئته, وليس في الأمر أي صعوبة.

إذن هناك منطلقات فقهية جعلتك تتجه إلى ما يمكن أن نسمّيه مناصرة المرأة أثناء عملك كمحام (وكيل شريعة) ?
- في الحقيقة لا أدّعي أن علاقتي بالمرأة كانت تحرّراً أو مناصرة بل لأنه لم يوكلني أحد غيرهن.

فقد كنت أبدو بقميص مهلهل, نعم كان هناك رجال يوكلونني, لكن أول مَن وكلني كن نساء, وبالذات المطلقات والوارثات أو مغتصَبات الإرث من الإخوة, ففي هذه الناحية عندما يموت الغني يتعاون الأولاد في الاحتيال على البنات حتى لا يخرج مال أبيهم إلى زوج الأخت أو البنت, كما وُكّلت أيضاً في قضايا الزنا وغيرها.

في هذه الفترة تحسنت أحوالي المعيشية باستثناء فترات العطل, كنت فيها أقتنع بالقليل.

نعود إلى تجربتك في الكتابة, فمن خلال مقالاتك والاستماع إلى أحاديثك نجد أن فقد البصر لم يؤثر سلبياً في تحصيلك المعرفي, وعلى العكس نجد معارفك متسعة في أكثر الجوانب القديمة والحديثة, كيف استطعت تجاوز إشكالية فقد البصر كونه فقداً لحاسة مهمة في التوصيل المعرفي ?
- أنا أقرأ كل ما وجدت ولا أستطيع أن أرتّب على حسب ظهور كل كتاب أو كل رواية, إنما استطعت أن أتابع نجيب محفوظ من رواياته التاريخية الثلاث إلى آخر رواية وهي (ابن فطوطة).

وأستطيع أن أقول بأنني تابعت كتب طه حسين بعد خروجها بمدة قصيرة, ولي أصدقاء وصديقات في سوريا ومصر ما حالوا بيني وبين كتاب, حتى أن أحدهم لم يقبل مني أن أعطيه ثمن أو مقابل ما دفع.

كم ساعة تقرأ - أو يقرأ لك - في اليوم ?
- كنت أقرأ في الخمسينيات ثماني ساعات من التاسعة إلى الواحدة ظهراً, وبعدها من الخامسة إلى الثامنة أو التاسعة.

وفي أوقات أقرأ أقل, أما أكثر فلا, وفي أوقات لا أقرأ أي شيء, أستمع إلى الراديو أو استرجع ما قرأت وأرتّب ذهنياً, فعندي - مثلاً - فكرة عن كل كتاب فيه شاهد على ما أقول أو دليل.

ألا تقع في أخطاء أثناء ترتيبك ذهنياً للشواهد والأرقام ?
- قد أقع في أخطاء في الأسماء وفي أرقام القرون الزمنية, وهذا يحدث لأنني أملي ولا أرى كيف كتب, فأظن أن الإملاء يحرمني رؤية الاسم فأذكره, ولكني لا أرى أن هذه الأخطاء موضوعية وإنما هي هامشية.

إذا كنت قد وجدت بعض المخارج القضائية في مجال الفقه التقليدي لبعض القضايا الاجتماعية أثناء عملك وكيل شريعة (محام) فماذا بالنسبة لمجال الشعر, من أين استمددت الشجاعة في نقدك ?
- في مجال الشعر كانت هناك دوافع زمنية ودوافع حرمانية ودوافع وطنية, في الحقيقة, أما الشريعة فإنها تأمر بطاعة الله ورسوله وأولي الأمر.

بعد رحيل الشاعر محمد مهدي الجواهري, توصف الآن بأنك آخر الشعراء الكلاسيكيين الكبار, أو أنك الشاعر المتميز الوحيد في كتابة القصيدة العمودية, هل هذا يعني أن القصيدة العمودية ستتحول إلى إرث جمالي في المستقبل, خاصة ونحن نلاحظ اجترار شعراء لتجارب سابقيهم ودون أي إضافات جمالية ?
- في الحقيقة, الأحكام الأدبية مصابة بأمرين, الأمر الأول: السباق على الأحدث والأجد, والأمر الثاني: مجاراة العلم الذي ينتج كل يوم من الألعاب عشرة أنواع, كلباً وقطّاً, دجاجة وفأراً, وكذا المخبز الآلي الذي ينتج مليون رغيف.

الشعر غير ذلك, أنا من عام 1950م إلى الآن واقف على مبدأ أدبي واحد هو أن المهم هو الإجادة: في شكل البيت, في شكل التفاعيل, في شكل العمودي المتطور.

لأن الشعر العمودي ظل قائماً ولايزال, لكنه كان قائماً عند مَن أجادوه, مثل محمد مهدي الجواهري في العراق, ومحمد المجذوب في السودان, وعمر أبي ريشة وبدوي الجبل في سوريا.

وفي سوريا بالذات, ظل الشعر العمودي هو المسيطر إلى مطلع السبعينيات ولم يلتفت السوريون, حتى المعاصرون جداً, إلى الشعر الجديد.

الشعر العمودي كان قوياً جداً, وكان يؤجج مظاهرات, كان الجواهري يخرج مظاهرات تظل ساعات في بغداد, كما حدث يوم رثى أخاه جعفر قائلاً:

بأن جراح الضحايا فم


أتعلم أم أنت لا تعلم




وكان الجواهري جماهيرياً أحسن من أبي ريشة, لأن الجواهري ذا صوت مبحوح غير مشروخ مثل عمر أبي ريشة, والجواهري شيعي وللشيعة فلسفة فيثاغورية والفلسفة الفيثاغورية هي أرومة الوجودية التي بدأت بشكل إيماني عند كيركيجورد وسان بيرز, وحييت بعد ما ظهر سارتر وسيمون دي بوفوار وأصبحت الوجودية من مطلع الأربعينيات إلى الآن أقوى مدرسة أدبية.

قصائد رديئة

لكن هناك بعض النقاد وبعض الشعراء الحداثيين يقولون إن ازدهار القصيدة العمودية ارتبط بفترة المد الثوري, وإن هذه القصيدة كانت عبارة عن صوت اعلامي مباشر للخطاب السياسي.
ويطرح أن الخطاب السياسي صارت له منابره أو قنواته الخاصة المعبّرة عنه, وبالتالي أدى هذا إلى تجدد الأشكال الفنية مع تحوّلات الأزمنة, فيلاحظ عالمياً أن الشعر تراجعت مكانته عند الجمهور الذي صار يتجه نحو الصورة بتقنياتها السينمائية والتلفزيونية إضافة إلى الرواية, وأصبح هذا العصر يوصف بعصر الصورة وعصر الرواية, فكيف تعتقد أنت أن القصيدة العمودية مازالت صامدة رغم التحوّلات ?
- القصيدة العمودية الرديئة تبقى رديئة, مثل قصائد أحمد رامي, وبعض قصائد أحمد الصافي النجفي, وبعض أبيات للجواهري, فمثلاً الجواهري يقول:
السيد عبد الرازق غير متصل   الرد مع إقتباس