عرض مشاركة مفردة
غير مقروءة 22-05-2010, 08:07 AM   #2
المشرقي الإسلامي
أحمد محمد راشد
 
الصورة الرمزية لـ المشرقي الإسلامي
 
تاريخ التّسجيل: Nov 2003
الإقامة: مصر
المشاركات: 3,832
إفتراضي

ومن ثم ،تعد قصيدة (وكما يموت الناس مات) للشاعر عبد المنعم عواد يوسف أول قصيدة يكتبها شاعر مصري على نسق الشعر الحر بعد قصيدة الشرقاوي الآنفة الذكر ، وهو يسبق بها قصائد هذا الشعر لصلاح عبد الصبور .ومن المفارقات أن أحد كتابن االروائيين –فيما حدثني – كان يظن أن عبد الصبور هومبدع هذه القصيدة ، وأن الشاعر أمل دنقل قد ضمن مطلعها وهو عنوانها أيضًا إحدى قصائده دون أن يشير إلى الأصل.
والقصيدة مطولة فهي تبلغ 43 سطرًا وتدل على خوهبة وتمكن لغوي وإيقاعي ولا تشوب بينها شائبة من تهافت في الصياغة أو اشطراب في الرؤية الشعرية .ويلمس المتلقي منذ بدايتها حرار التجربة ،تلك الحرارة التي نحس بها حتى اليوم ، وقد مضى على نشرها أكثر من 35 عامًا .وصورها تنبض بالحياة ، وهي نموذج لشعر الواقعية التي سادت في الخمسينيات والتي ما زالت مثيرة للإأيحاء وقادرة على التعبير الفني عن التجارب الإنسانية لأ،ها تصدر عن حقائق بشرية ولا تفصل الفن ورسالته عن الواقع تالاجتماعي والتطور التاريخي بما يكتف مسيرته الطويلة المتشعبة من صراعات في كل الميادين.
وإذا كانت بعض قصائد الشعر الحر في الخمسينيات مشوبة بالشعارات السياسيةوالصخب الذي يقترب بها أحيانًا من دائرة الأعالم والترويج للمذهب الأيديولوجي السائد ، بالنظر إلى أنها ولدت في رحم الأحداث الثورية في العالم العربي في تلك المرحلة ، فإن قصيدة عبد المنعم عواد يوسف تكاد أن تخلو من آفة المباشرة والتقريرية وقد امتدت عميقًا في جذور العالم الشعري ، فعبرت عن حس إنساني شفيف ، وتجربة حية تنضح شعرً امن الوجدان والوعي الكامن ، ولا تقوم على الزخرف الخارجي المموه أو على تراكمات لفظية في الذاكرة ، أو محصول ذهني منفصل عن الإحساس بإيقاع الحدث الذي تدور حوله القصيدة وارتباطه بالسياق الاجتماعي والإنساني العام.
وتبدأ القصيدة بعبارة نثرية لكنها شديدة الوقع بما تكتنزه من شحنة يتحول فيها الانفعال المتأجج إلى رماد . وعلى الرغم من عدم ارتكاز بنيتها على الصورة المركبة فإنها تكسب فاعليتها الحية من استحضار كوامن الشعور بالمأساة في تارخي الشعب المصري ، ومن إثارة ما قر في نفس الفرد والجماعة منذ الأزل من العجز عن منع أو مواجهة الموت ، ذلك الشبح المجهول الذي يترصد الإنسان حيثما أقام أو رحل .وبذلك تتخطى القصيدة المستوى المحلي إلى مستوى الوجود الإنساني . ومن ثم وردت في صيغة التعميم أسماء الكائنات الطبيعية من حي أو حماد (الناس –الأرض – الطيور – الجبال بوصفها لا باسمها) ، دون وصفها بما ينم عن البيئة المصرية أو ذكر أنواع تلك الكائنات المعروفة في تلك البيئة ،والتي تمتاز بها عن غيرها من البيئات . ويضفي الشاعر بتكرار أدايت النفي (لا ) و(لم) جوًا من الفراغ الموحش الذي يؤطر المكان للدلالة على الموت دون أن تنفي ذلك بل تؤكده دلالة الطيور النادبات لتعميق الشعور بالفقد والعدم .فكأننا نحس بأصداء مناحة من أعماق الأرص المصرية في القديم والحديث :
وكما يموت الناس مات
لا ، لم تنح أرض علهي ولا تهاوت شامخات
لا، لم تشيعه الطيور إلى القبور ..مولولات
وكما يموت الناس مات
وتلعب التقفية باستعمال حرف التاء دورًا إيقاعيًا مؤثرًا من خلال تصدية هذا الحرف الدالة بالمد ، ثم التسكين (حركة السكون ) على الفعل الصارخ القاطع ،كما يدل انسياب الأصوات على انتشار أصدائها عبر الفضاء كله أرضًا وسماء.
وفي المقطع الثاني تدخل ساحة المشهد الرمزي الوجودي فتاة باسم نجلاء فنلتقي لأول مرة بشخصية معينة هي ابنة الفقيد على حين لا يسميه الشارع طوال القصيدة لأنه وحدة إنسانية متكررة ملايين المرات ، فهو مجرد فلاح من غمار الكادحين المجهولين ، وإن كان لولاهم لما عرفت أرض مصر ولا جر النيل ، وذلك هو مغزى التجريد في النص بإغفال الاسم والصفات في حين يعمد الشاعر إلى تصوير المكان .
وللدلالة على أن القروي الميت فرد في جماعة تحيي بعذ زواله ممثلة لبقاء الشعب وتوالده عبر الأجيال وإن كانت تعول نائحةكلما انفرط عقدها بفقد واحد منها ، ثم لا يلبث أن ينتظم لتستمر الحياة ولو في حدها الأدنى الذي تشارك به الحيوان والنبات –للدلالة على هذا المعنى- يستعمل الشاعر لفظ الرجال دون تخصيص بالتسمية أو بغيرها أيضًا لأنهم يشكلون بجموعهم الشعب والشعب لا اسم له لانه الحياة نفسها والوجود ذاته ونما لا يحتاجان إلى تعريف :
وتقول نجلاء .... "وكان
يضفي على الدار الحنان "
وتروح تنظر والرجال
عبراتهم متحدارت ..والمكان
والنعش يخترق المكان
يجتاحة يأس ..وكان
ويختار الشارع في المقطع الثاني بعض المفردات المشخصة لحدث الموت ومكانه وهو القرية الصغيرة وسكانها المعدمون والمعمقة للشعور بالوحشة والبؤس.ويظل استعماهل للأفعال مقصورًا على المضارع باستثناء الفعل الماضي (تهاوت)في السطر الثاني من المطلع و(كان)مرتين في المقطع الثاني ،وذلك بقصد إضفاء الحياة على المشهد ،و التعبير عن التفاعل بين الشخوص والأحداث .
ومثل استخدام حرف التاء في المقطع الأول للدلالة على صوت النشيج المتقطع أحيانًا ،والقاطع الباتر أحيانًا أخرى يجيء استخدام حرف النون في المقطع الثاني رمزًا للحنان الذي يلف المكان بالسكون الحزين .وثمة مشهد يقتحم هذا المكان فثيزلزل ذلك السكون وهو جنازة الفقيد ولذلك استعمل الشاعر لفظة يخترق لتصويرها .
وتتلاقي أو تتقطاع المرئيات والمسموعات والحركات والسكتات في المقطع الثالث ويهوم النعش فوقها جميعًا باعتابره الفلك المغلف بالأسرار والذي تدور حوله في شبه غيبوبة.ويستمر استخدام الأفعال الممدودة من أسماء وأفعال في نهاية كل سطر ، تعبيرٍا عن الصمت الكظيم الممتد امتداد المجهول ، كما يلاحظ ذلك في الإشارة إلى المكان (من بعيد-هناك) في المقطع الثالث :
وتروح تبرق من بعيد
عينان والهم الشديد
ونعيب غربان هناك
والنعش في خطو وئيد
عبر الأزقة والدروب
__________________
هذا هو رأيي الشخصي المتواضع وسبحان من تفرد بالكمال

***
تهانينا للأحرار أحفاد المختار




المشرقي الإسلامي غير متصل   الرد مع إقتباس