عرض مشاركة مفردة
غير مقروءة 14-01-2011, 02:15 PM   #6
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

* * *


أما المشروع النهضوي الثاني - الذي قادته مصر الناصرية – فتعرَّض للانتكاس لجملة أسبابٍ وعوامل لعلّ أهمها:
أولها أنه جُوبِهَ مجابهةً حادة من طرف القوى الامبريالية والصهيونية التي نجحت في إلحاق ضربتين موجعتين به هما: الانفصال في أيلول/سبتمبر1961 وعدوان حزيران/يونيو1967. وهو في هذا يشبه مشروع محمد علي وإبراهيم باشا. كلاهما لم يبدأ سقوطه من الداخل (وإن كان ذلك الداخل غيرَ مُجَهَّزٍ بمؤسسات تحميه)، وإنما بضربة عسكرية من الخارج: من فرنسا وبريطانيا المتحالفتين مع غريمهما العثماني في حالة محمد علي، ومن أمريكا و"إسرائيل" في حالة عبد الناصر.

وثانيها تأجيلُه مطلب الديمقراطية واعتبارها دون قضية التنمية أولوية، وبالتالي استبعادُهُ قطاعاتٍ واسعةً من الشعب من المشاركة السياسية وإدارة المشروع نفسه.

وثالثها قيامُه على كاريزما الزعيم وغياب نظام المؤسسات، الأمر الذي ذهب بالمشروع بعد رحيل صاحبه وسهَّل الانقلاب عليه، بل لقد سهل حدوث انتكاسات مهمة حتى قبل ذلك الرحيل كما في تجربة الوحدة المصرية-السورية (1958-1961).

ورابعها الدعم الكثيف الذي تلقته قوى الثورة المضادة والنخب الرجعية من أمريكا للانقضاض على ذلك الميراث النهضوي وإعادة جدولة الأولويات: الصلح مع أمريكا و"إسرائيل"، والرأسمالية المتوحشة العالمية وقواها في الداخل، والتمسك بالدولة القطرية كمقدَّس سياسي. والأنكى أن بعض تلك القوى والنخب خرج من رحم الثورة نفسها!

وخامسها أن الصراع الذي نشب بينه وبين قوى الإسلام السياسي واليسار لم يُمكِّن من استيلادِ تحالفٍ عريض يضم سائر القوى ذات التمثيل الأصيل والفعالية السياسية تحمل ذلك المشروع وتنهض بمهمة تحقيقه.

لقد أرهقته تناقضاتُه الداخلية لا شك. لكن الضربة القاضية التي أطاحت به كانت من الخارج. وهو عينُه ما تكرَّر مع العراق بعد قرابة ثلث القرن. وفي ذلك ما يعني أن القوى الامبريالية والصهيونية تقف مترصدة كل محاولة عربية للنهضة وتجهِّز النفس لإسقاطها في المهد مستعملةً لذلك الوسائل كافة.

ب- تعظيم عوامل القوة في تلك المشاريع وإعادة تثميرها
إن المآلات التي آلت إليها تجارب النهضة السابقة لا ينبغي أن تحجب عنّا ما راكمته من مكتسبات، وما كان فيها من عوامل قوة تحتاج اليوم إلى استعادةٍ وتطوير، وإلى استدخالٍ لها في مشروع جديد. إن أحداً لا يملك اليوم أن يجحد حقيقة أن الحقبة الليبرالية بين الحربين نَبَّهَتْنَا – ولو متأخرين – إلى أهمية مسائل مثل الحرية والدستور والتمثيل النيابي. وأن الحقبة القومية تمثلت تمثُّلاً خلاَّقاً مطالب الوحدة القومية والاستقلال الوطني والقومي والتنمية المستقلة. وأن التيار اليساري قدَّم مساهمة رائدة في بناء رؤية نظرية لمسألة الاشتراكية والتوزيع العادل للثروة. وأن التيار الإسلامي قدَّم رديفاً لها في تشديده على مسائل الهوية والثقافة والجماعة والتنبيه إلى أهميتها. والمطلوب اليوم هو تعظيم تلك المكتسبات من خلال تطويرها واستدماجها في مشروع نهضوي واحد يعيد إقامة علاقات التلازم والترابط بينها بدل علاقات التنافر والتضاد.


5- في المشروع النهضوي العربي الذي نريدُه
المشروع النهضوي الذي تتطلع إليه الأمة اليوم هو المشروع الذي ترى في مرآتِه مسْتَقْبَلَها. وهو إذ يُفْصِح عن تطلعاتها إلى واقعٍ تكون فيه مشارِكةً في التاريخ وذاتَ دورٍ فيه مناسبٍ لصورتها عن نفسها كأمةٍ ذات رصيد تاريخيّ، فهو يستوعب كافة الأهداف والمطالب التي حملتها ستة أجيال عربية – في العهد الحديث والمعاصر – وناضلت من أجل إنجازها (فنجحت في بعضها وأخفقت في أغلبها)؛ لكنه يعيد بناء الصلات والعلائق بينها بشكل جديد.


أ- طبيعةُ المشروع النهضوي وأهدافُه
يبرّرُ فكرةَ مشروعٍ نهضوي عربي ما تعانيه الأمّة من ضَعْفٍ ووهن في أوضاعها، ومن ضياع وذهول في الرؤية إلى ما ينهمر عليها من نكبات وتراجعات. وحين تكون الأمة بهذا الحجم من التراجع والضياع والتِّيه على الرغم مما تضمه من قوى حية، تحتاج إلى بوصلة تهتدي بها وترشِّد بها فاعليتََها. وليس غير مشروعٍ شاملٍ واستراتيجي، مثل المشروع النهضوي، يقدم لها – وللقوى الحية فيها – مثل تلك البوصلة.

يمثل المشروع النهضوي هذا ردّاً على معضلات ستّ فرضت نفسها على الواقع العربي وعلى العقل العربي منذ قرنين: الاحتلال، والتجزئة، والتخلف، والاستغلال، والاستبداد، والتأخر التاريخي. الاستقلال الوطني والقومي هو الجواب التاريخي عن حالة الاحتلال. والوحدة القومية هي الردّ الاستراتيجي على التجزئة الكيانية التي باتت هي الأخرى مهددة بتجزئة دون قطرية. والتنمية المستقلة هي بديل التخلف والتنمية القاصرة في ظل العولمة. والعدالة الاجتماعية هي نقيض الاستغلال والفوارق الطبقية الفاحشة التي تعمقت في ظل محاولات فرض نموذج ليبرالي بدعوى تحقيق الكفاءة الاقتصادية. والديمقراطية هي السبيل الوحيد لمشاركة الأمة في صنع مستقبلها. والتجدد الحضاري هو الحلّ لمعضلة التأخُّر التاريخي والانحطاط. هي أهدافٌ ستة – إذن – تلك التي تؤسّس المشروع النهضوي العربي وتَحْمل على الحاجة إليه.

ومن النافل القول إنها ليست أهدافاً جديدة، ولا بدأ الانتباه إليها مع ميلاد فكرة المشروع النهضوي اليوم. بل لاَزَمَتْ مسيرة الفكر السياسي والعمل السياسي العربيَّيْن منذ القرن التاسع عشر، وخاصة منذ الحرب العالمية الأولى. لكنها – أبداً – لم تتبلور كأهداف كاملة مترابطة إلا في المشروع النهضوي، وإن كانت الأمانة تقتضي الاعتراف بأن شكلاً من أشكال الترابط بينها تَبَلْوَرَ في برنامج الثورة المصرية على نحو ما عبَّر عنه "الميثاق" أبلغ تعبير، فقبل المشروع النهضوي كانت كل نخبة فكرية وسياسية تشتغل تحت عنوانِ هدفٍ بعينه دون سواه: كانت الوحدة هدف النخب القومية الأساس (أضاف إليها عبد الناصر الاستقلال والتنمية). وكانت العدالة الاجتماعية الهدف الرئيس للنخب اليساريـة. والحريـة (الديمقراطية) هدف النخب الليبرالية. وحفظ الهوية من التبديد هدف النخب الإسلامية. وكل واحدة من هذه النخب تحسب الهدفَ، الذي أقامتْ عليه مشروعَهَا الفكريَّ والسياسيَّ، المفتاحَ الوحيد للجواب عن معضلات الواقع العربي غير آبهةٍ بغيره من الأهداف.

لم تكن جميعُها على خطإ في تبنّيها تلك الأهداف، فهي أهداف صحيحة وموضوعية تفرضها أحوال الواقع العربي. لكن الخطأ كان في التعامل معها كأهداف متمايزة ومنفصلة ومتعارضة. وعلى ذلك، يمثل المشروع النهضوي العربي تصحيحاً وتصويباً لتلك الرؤية وإعادةَ بناءٍ وصياغةٍ للعلاقة بين تلك الأهداف.

ب- شكل العلاقة بين عناصر المشروع النهضوي
المشروع النهضوي الذي نريدهُ منظومةٌ مترابطةٌ من الأهداف تتصل الواحدةُ منها بالأخرى اتصالَ تلازُمٍ وتَمَاهٍ. وكما في كل منظومة، لا يَقْبَلُ العنصُر الواحد من المشروع النهضوي عزلاً أو فصلاً أو مركزيةً دون تغيير مجمل المنظومة والمعنى العميق الذي يؤسِّسُها. فالعناصر جميعُها مترابطة ويقوم بينها تحديدٌ متبادَل، ولا يمكن إدراكُها إلاّ في منظوميَّتِهَا. وترجَمةُ هذه الرؤية سياسيّاً أن المشروع النهضوي هذا لا يَقْبَل النَظرَ إليه بمنطق الأولويات، لأن هذا المنطق هو – بالذات – الذي كان مسؤولاً، في ما مضى، عن اعتماد هدفٍ معيّن أو أهدافٍ بعينها على حساب أخرى.

تعني منظوميّةُ المشروع النهضوي احترامَ كُلّيته، والإعراضَ عن كل مقاربةٍ له بمقتضى فكرة الأفضلية، وعدم المقايضة بين عناصره وأهدافه: تلك التي أوقعت مشاريع النهضة السابقة في تناقضاتٍ ذاتية ذهبت بوهجها الثوري وأساءت – في بعض الأحيان – إلى صورتها وشرعيتها. إنه المشروع الذي ينبغي إدراكه بوصفه هدفاً واحداً لا يقبل التجزئة وإن كان يقبل التمرحل الموضوعي. وفي هذا السياق ينبغي أن تتكاتف جهود كافة القوى الحية المؤمنة به للنضال من أجله في إطار حلفٍ عريض ("كتلة تاريخية") يكون المشروعُ إياهُ برنامجَها ومرجعَها.


* * *

فَلْتَخُضِ الأمةُ إذن، وقواها الاجتماعيةُ والسياسيةُ والثقافيةُ الحيّةُ، معركةَ تحقيق هذا المشروع النهضويّ العربيِّ وأهدافه التاريخية الكبرى، بعزيمةٍ على قدرِ مستوى التحدّي: مستلهمةً ميراثَها الحضاريّ العظيم وسوابق التاريخ وتراكماته. وهذه رؤية للنهضة نضعها تحت تصرُّف معركة الأمة من أجل ذلك الهدف الكبير.
* * *
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس