عرض مشاركة مفردة
غير مقروءة 08-10-2007, 08:43 PM   #31
*سهيل*اليماني*
العضو المميز لعام 2007
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2006
المشاركات: 1,786
إفتراضي

العامية، والدخيل، واللهجات
في قلب الجزيرة العربية(*)

للأستاذ عبد اللـه بن محمد بن خميس
عضو المجمع

الحصانة التي كانت تتمتع بها اللغة العربية في قلب جزيرة العرب كان سببها شبه العزلة التي كانت القبائل العربية تعيشها سالمة من عدوى العجمة وأدواء التقليد، بعيدة عن المؤثرات اللسانية التي تبلبل وتفسد لهجاتها.
وغير ذلك فهناك وازع النقد، وسلطان الغيرة، ورقابة المجتمع.. فلا تكاد تند من متحدث أو شاعر أو خطيب.. كلمة نشاز إلا ويكونون لها بالمرصاد، مما يحملهم على التحفيظ ويبعثهم على الالتزام .. قامت أسواقهم على هذا، وتواصت منتدياتهم به.. فكانوا جميعًا للغتهم حراسًا، وعليها غيارى، وكانوا إلى جانب ذلك يغذون لغتهم ببديع البيان، ومتألق اللفظ، ورائع الشعر، وجزل الخطب، فسمت منهم الفصاحة، وعلا بهم القول، وتكامل فيهم الإعجاز .. كان ذلك بين يدي الإسلام، لتكون معجزة القرآن بالغة مبلغها، مستوفية دلالتها، في قوم تهزهم الفصاحة، ويبهرهم جزل القول، وتشدهم سلاسة المنطق .. ومع ذلك فقد وغل فيهم من الدخيل ما وغل، وتخلل لسانهم فوت الحرص، وسبق العذل، ولم يلبث حتى أساغوه، واستخدموه، وبقي فيهم مجاورًا، وعلى ألسنتهم مسموعًا.. وإن كانوا يميزون الدخيل من الأصيل، ومغموز النسب عن المتوقح في أرومة لسان العرب .. إلا أن القرآن وهو الغاية في الفصاحة والبلاغة، والمثل الأعلى في السمو والإعجاز، قد أقر ما أقره اللسان العربي، وأتى منه بما ليس بمستغرب .. لا يصدع الآذان سماعه، ولا تنكر الطباع وقعه .. أتى منه بما يناهز مائة لفظة، على ما وقع في هذه القضية من خلاف بين العلماء .. فمنهم من ينكر وقوع غير العربي في القرآن، وله دليله من واقع القرآن. ومنهم مـن يؤيـده ، ولكن على أن ما وقع كان بغير اللسان العربي أصلاً، ولكنه تعرب بوقوعه في لسان العرب فأصبح منه ومن ثم أتى به القرآن.
ومع ذلك فقد سرت عدوى العجمة في بعض قبائل العرب التي لها احتكاك بالأمم الأخرى، عن طريق المجاورة أو التجارة أو النقلة أو المصاهرة أو غير ذلك، حتى حذر علماء اللغة الذين عنوا بتدوينها سليمة من كل شائبة، نقية من كل عجمة، حذروا الأخذ عن غير الفصحاء .. فالذين نقلت عنهم العربية من القبائل، وكانوا هم القدوة في التدوين، هم: قيس، وتميم، وأسد، وهذيل، وبعض كنانة، وبعض الطائيين .. وأغفلوا لغة كل حضري، ومن كان من البوادي مجاورًا للأمم الأخرى، كلخم، وجذام، وقضاعة، وغسان، وتغلب، وبكر، وعبد القيس، وأزد عمان، وبني حنيفة، وثقيف.. وسائر قبائل الطائف – أغفلوا الأخذ عنهم بسبب مجاورتهم للأمم الأخرى، أو اختلاطهم التجاري.
ومع ما تقدم بقيت اللغة في قبائل الجزيرة العربية سليمة قويمة، وبدا اللحن يغزو المدن والحواضر، في مطلع فجر الإسلام المبكر، وبدأت السليقة العربية تتأثر، وبدأ اللسان العربي في الحواضر يتعثر .. كقصة الذي لحن بين يدي النبي صلى اللـه عليه وسلم، وقصة عامل عمر ، وقصة ابنة أبي الأسود الدؤلي، وقصة الأعرابي الذي لحن من يعلمه القرآن.. فأنكر المُتعلِّم على المُعلِّم .. وغير ذلك من البوادر التي ضاق بها ذرع أعلام اللغة آنذاك وأئمتهم ، فوضعت القواعد، ودون فصيح اللغة وصريحها، وانتقل من يومئذ علم اللغة في الحواضر الإسلامية وما جاورها، من السليقة والطبع إلى رياضة الألسنة على هذه القواعد، وتلقينهم إياها .. إلا ما كان من بقايا قليلة سلمت لهم ملكاتهم، وتأبّت سلائقهم على ما ليس من طبعها، ممن لم تحفظ عليهم لحنة واحدة.. كعبد الملك بن مروان، والشعبي، والحجاج، وأيوب بن القرية.
في هذه الأوساط التي أصبح علم اللغة فيها يؤخذ بالتدريس والتلقين، وبدأ الطبع اللغوي والملكة الأصلية يضمران وينكمشان .. بدأ المهتمون بأمر اللغة والغيرة على حماها، يقصدون البادية، وينتقلون بين أهلها، ويسجلون لهجاتها، ويلتمسون القول الفصل في ما اختلف فيه، ويتتلمذون على أمييهم ممن لم يعرف الحضارة ولم يشب لسانه شائبة ..
وأخذ الخلفاء والأمراء والموسرون يبعثون أولادهم إلى البادية؛ ليأخذوا اللغة سليقة وطبعًا، تتسم بالجزالة، وتنطق فحلة متبدية أصيلة.
ولينقلوا أنفسهم من الحياة الحضرية اللينة، المترفة، الوادعة إلى حياة البادية الخشنة، الناصبة، الكادحة .. وإلى جو الفتوة والرياضة العربية، من ركوب الخيل، وتسلق الجبال، وقطع الفيافي، رجالاً وركبانًا، في حَمّارة القيظ، وصَبّارة الشتاء .
ولم تزل اللغة في الحواضر العربية وما جاورها تمعن في البعد عن السليقة، وتنأي من ملكه اللسان العربي، بعوامل الاختلاط والمجاورة والمصاهرة والتجارة، والفتوح الإسلامية - عبر القرون - الأولى من الإسلام، وبانتقال الخلافة والسلطة من العرب إلى غيرهم، زوحمت العربية في عقر دارها، واتسعت العجمة تبعًا لنفوذ أربابها، وضمر ظل الفصحى، تبعًا لضمور نفوذ أهلها، إلى جانب ما تعمله السلطة المتسلطة على إضعاف اللسان العربي والكيد له .
هذه العوامل وغيرها .. تنقر صخرة هذه اللغة عبر القرون، وتسعى في تفتيتها وإنهاكها، ولولا أن اللـه تكفل بحفظها، ممثلة في كتابه العزيز، لذابت وانطمست معالمها، ولكن قيض اللـه لها قلاعًا حصينة، وجنودًا مجاهدة، توارثت العمل من أجل الإسلام، والحفاظ على كيان الفصحى، في صميم الحواضر العربية، وعلى رأسها الأزهر الشريف.. مما جعل هذه الأمة بأسرها مدينة لجهادها، مطالبة بالوفاء لها.
ويأتي عصر الانتفاضة العربية، فتواكبه أقلام مجاهدة، وأعلام بارزة، وقادة فكر أوفياء .. نشأت نتيجة لجهادهم المجامع العلمية واللغوية، والمعاهد المتخصصة، والجامعات، ونشطت حركة التأليف والنشر، والتحقيق والتدقيق، وإحياء التراث وخدمة الفصحى، في جميع المجالات ولا يزال جهادها مستمرًّا ونشاطها متواليًا.
وأمام ما جد به العصر من مبتكرات، في مجال الصناعة، والطب، والاقتصاد، والعلم بجميع فروعه، وما إلى ذلك نتج عنه حشد من المسميات، والمصطلحات، وواكبه زحف من الأفكار والفلسفات والمعارف.. كل ذلك وغيره واجه اللغة العربية في هذا العصر وطالبها ببيان موقفها منه .
وأمام ما تجري به بعض الأقلام، وما تتوارد به بعض الأفكار، وما طرأ من تغيير على كيان الشعر العربي .. باسم المرونة، ومجاراة واقع العصر، ومحاربة الجمود، ونبذ الماضي المحنط، وإفساح المجال للأقلام الناشئة، لتعبر عن أفكارها من أقرب طريق، وتسهم في بناء فكر متوثب شاب .. لئلا تعوقها القيود والحدود، وتقف في طريقها القواعد والمصطلحات، فصغرت حرمة الفصحى لدى بعض المتأدبين، والمُدَّعِين، وقلت هيبة ذلك الحمى المتمنّع، واقتحموا حدوده، وجاسوا خلاله .. فصرنا نرى العناوين البارزة الملحونة، تحتل واجهات الصحف، وصار المذيع والمحاضر والخطيب .. لا يتحرجون من أن يقذفوا باللحن كالقذف بالجلاميد .. وصار باب الشعر مفتوحًا لمن شاء أن يكون شاعرًا .. يرصف الجمل والحروف كرصف البيانات، ويسميه شعرًا .. تاركًا كل قاعدة من قواعد الشعر جانبًا.. أمام هذا كله، وأمام ما عسى أن يكون من غيره فإن رسالة حراس اللغة في هذا الزمان ثقيلة، ومهمتهم شاقة، ودربهم شائك .
ونعود إلى الحديث عن اللغة في قلب الجزيرة العربية – لغة البادية – وقد عهدناها في صدر حديثنا هذا معتصمة بسليقتها، محتفظة بملكتها، يقصدها علماء اللغة للأخذ عنها، وينتجعها الرواد للتأثر بها، والتعلم منها.
كان هذا واقعها في صدر الإسلام، وليس من شك في أنها لم تبق محتفظة بأصالتها اللغوية ومكانتها الأولى .. فلقد تأثرت قبائلها المحافظة، بما تأثر به غيرها من القبائل، ذات الصلة بالمجاورين غير العرب وداخلها ما داخلها من واغل، غمز جانبها، وكدر صفوها .. إلا أنها إلى السلامة أقرب، وبالسليقة ألصق. تأرز دائمًا إلى أصلها ، وتنـزع أبدًا إلى أرومتها – يتحدث إليك متحدثها قاصًّا أو مخبرًا أو مستخبرًا أو واصفًا أو جادًّا أو هازلاً .. فيذكِّرك بما أنت تقرؤه عن العرب الأول، وتنسجم مع حديثه انسجام المتأمل المتذوق المشدود إلى السماع، ويواجهك بصراحة العربي وصرامته، وصدق لهجته، واعتداده بنفسه.
وإذا كنت حضريًّا وحدثته بعاميتك الحضرية جعل يتندر على ما في لهجتك من ليونة، وعلى ما في لسانك من لوثة، وعلى ما في مسمياتك من خطأ، وما في مصطلحاتك من هجنة.
للحديث عن الناقة والفرس والطير والكلب والوحش والصحراء والطبيعة المتحركة والساكنة.. قواعد والتزامات لا يضل فيها ولا يغوى .. فهذه فرس صفراء، لذات اللون الأبيض، وصهاة، بياضها ناصع، ومرشوشة للمنقطة بلون آخر، وشهباء للتي مازج لونها قليل من السواد، ودهماء للتي غلب عليها لون السواد، وكميت وحمراء وشقراء .. للاتي ألوانهن كذلك وهكذا ، وقد أعطت الفرس وأشعت إذا طلبت الذكر، وعلاها الذكر إذا لقحت، وأبطحت إذا قاربت الإنتاج، وأفلت إذا أنتجت، وولدها فلو، أو فلوة في السن المبكرة، ومهر أو مهرة بعده، وجذع أو جذعة بعده، وثنى أو ثنية، ورباع للذكر والأنثى وهكذا .. وهكذا بقية شياتها وأعضائها وعدوها وحركاتها.
وللناقة شيات ومصطلحات ومسميات وأحوال ليست للفرس، ولكل الحيوانات والنباتات والظواهر والطبائع المتحركة والساكنة كذلك، مما هو من صميم الفصحى، ومما لو خلَّط فيه مخلِّط أو حرَّفه محرِّف لكان عرضة للسخرية والهجنة والضحك كأن تقول مثلاً: هذه ناقة مبطح بدلاً عن الفرس، أو تقول هذه عشراء بدلاً عن الناقة.
وكلامهم في جملته يسمعه غير المتأمل فينكره، ويظنه موغلاً في العامية بعيدًا عن جو الفصحى. وإذا تأملته لا تسقط منه شيئًا إلا ما كان من تسهيل في الهمز، وإمالة في بعض حروف الإمالة، وإبدال فيما يدخله الإبدال .. مما هو خاضع لواقع اللهجات منذ القدم.
فيلقى مثلاً التميمي تميميًّا آخر فيقول له: " من أين أنت ياي؟ " فيجيبه: "ياي من اليوف " يظنه السامع كلامًا مرطونًا لا علاقة له بالفصحى. والواقع أن السائل يقول : " من اين أنت جاء " بتسهيل الهمزة من ( أين ) وإبدال الجيم ياء على لغة تميم وقلب الهمزة ياء . والجواب جاء هكذا :" جاء من الجوف " بقلب الجيم ياء في ( جاء ) و ( الجوف ).
ويلقى الطائي أخاه فيقول: " انطن مان " فيجيبه: " راع المان بالسرى " يقول الأول: أعطني ماء، ويقول الثاني: انظر الماء بالقناة . فانطن ومان وراع ، والسرى .. أسماء فصحى على لغة طيئ .
ويلقى العتيبي أخاه فيقول له : " ازن ماء "، فيقول أخوه: " ماش ماء "، الأول يقول: " اسقني ماء " فقلب السين زايًا من باب تناوب الحروف، وشدد الزاي ليسقط القاف. والثاني يقول: " ما شيء من الماء هنا " فاقتضب كلمة " ما شيء " بكلمة ( ماش ) .. وهكذا لغتهم فصيحة متمشية مع لهجاتها الأصلية .






__________________
*سهيل*اليماني* غير متصل   الرد مع إقتباس