عرض مشاركة مفردة
غير مقروءة 08-10-2007, 09:00 PM   #34
*سهيل*اليماني*
العضو المميز لعام 2007
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2006
المشاركات: 1,786
إفتراضي


لهجات اليمن " قديمًا وحديثًا "(***)
للأستاذ أحمد حسين شرف الدين
عضو المجمع المراسل

كانت اليمن قبل الإسلام وحتى أواسط القرن الخامس للميلاد يسودها صراع لغوي مرير، كان ذلك الصراع بين لغة " المسند " وهي اللغة اليمنية القديمة، والتي أطلق عليها اللغويون العرب " لغة حمير "، وبين لغة قريش التي بدأت حينذاك تنتشر في أنحاء الجزيرة العربية وتفرض سيادتها جنوبًا وشمالاً.
وقد أسفر هذا الصراع عن تأثر كبير وتطوير ملموس في لغة اليمن ، ويتجلى ذلك في نقش مطول عثر عليه بين أنقاض سد مأرب، يعود تأريخه إلى عام 543للميلاد(1)، ويعتبر هذا النقش المصدر الأخير الذي يبين لنا وضع اللغة في هذه الفترة بالذات .
ولم يعثر بعد ذلك على أي مصدر يكشف لنا مراحل هذا التطور، إلا أنه من الممكن القول بأن تلك اللغة اليمنية القديمة قد بدأت بعد ذلك في التلاشي، وفي أوائل القرن الأول الهجري أخذت تسير في طريقها إلى الانقراض التام.
أما من ناحية المصادر العربية فلم يكن هناك أي مصدر يوضح لنا شيئًا من مزايا تلك اللغة: صفاتها وبنياتها وقواعدها، وحتى مفرداتها لم يأت بها أي مصدر عربي، وكل ما نقل إلينا في هذا الباب لا يصح الاستناد إلى شيء منه.
وقد ظلت هذه اللغة في زوايا النسيان حتى سنة 1893م، وفيها سمع العالم أول نغمة عن اللغة اليمنية القديمة في أبحاث فريتز هومـلF.Hommel التي نشرها في مدينة ميونيخ بعنوانSudarabische chrestomathe ، وحظيت أبحاثه تلك باهتمام متزايد في الأوساط العلمية حينذاك، ولكنها عندما وقعت تحت مجهر الفحص تبين أنهــا كانت تسير في اتجاهات جانبية؛ إذ لم تتناول غير اللهجة المعينية التي كان يعتقد هومل – خطأ – أنها اللغة العامة لجنوب الجزيرة العربية ككل، فقد تبين بعد ذلك أن مصادر هومل كانت معينية بحتة .
وجاءت معلومات الدكتور اغناطيوس غويدي I.Guidi في كتابه :" المختصر في لغة حمير " الذي نشرته الحكومة المصرية سنة 1931 والذي قارن فيه بين لغة " المسند " وبين غيره من اللغات السامية مؤكدة لما ذكرنا .
وبعد ذلك ظهر أول كتاب يمكن أن نعتبره مجهودًا حقيقيًّا في هذا المجال نشرته الباحثة الألمانية ماريا هوفنر M. Hofner في مدينة ليبزج سنة 1943 بعنوان “ Altsudarabische “ فقد بقي ذلك الكتاب المصدر الوحيد لدراسات اللغة اليمنية القديمة ومحل إعجاب الباحثين في لغة العرب بصورة عامة .
ثم جاءت بعد ذلك أبحاث رودوكاناكسRhodokanakis وريكمانز Rykmans وبيستون Beeston والدكتور أحمد فخري والدكتور خليل يحيى نامي وغير هؤلاء ممن جعلوا أبحاثهم مركزة على الأسس الدياليكيتية والجذور التي تقوم عليها لهجات المسند، بعد أن فحصوا نقوشها وأعطوها حقها من الدراسة العميقة والعناية الدقيقة.
أما كون لغة " المسند " وما تفرع منها عربية أو غير عربية، فهذا يخرج بنا عن موضوع هذا البحث الذي نقتصر فيه على موضوع اللهجات، إلا أنه لا يفوتنا أن نقول بأن أولئك الأعلام الذين قارنوا الأدب الجاهلي في عصر المعلقات، وبين لغة النقوش اليمنية التي تعود إلى ما قبل ذلك بعدة قرون، قد فاتهم شيء مهم وهو اعتبار الزمن، إذ لو فطنوا لهذا الاعتبار لعرفوا أن مقارنتهم تلك أشبه شيء بالمقارنة بين رطانة الطفل وفصاحة اليافع، ولعرفوا أيضًا أنه من الإنصاف مقارنة تلك النقوش المعرقة في القدم بالنقوش العربية الشمالية القديمة كالصفوية واللحيانية والثمودية، أو على الأقل بتلك النقوش العربية المتأخرة كنقش النمارة وحران مثلاً، فإن مقارنتها بذلك يخرج بنا إلى نتيجة قاطعة وهي أن كلاًّ من لغتي الشمال والجنوب مجرد لهجتين تفرعتا من أصل واحد، إلا أن إحداهما وهي الشمالية تطورت ثم دخلت مع الجنوبية في صراع طويل – بحكم المجاورة – انتهى بتغلب الشمالية على الجنوبية، وساعدها على ذلك عدة عوامل تجارية وسياسية .
وكان لدخول اليمن في الإسلام أكبر الأثر في تلاشي تلك اللغة واندثارها خلال برهة يسيرة من الزمن، وهذه اللهجات المنتشرة في اليمن تعتبر فروعا لهذه اللغة الجديدة، إلا من بعض المفردات اللغوية القديمة التي نجدها بين آن وآخر في لهجات بعض قبائل المنطقة الشرقية من صنعاء كخولان ومأرب والجوف، والأطراف الشرقية من حاشد وبكيل وعنس والحداء وما جاورها من بلاد خُبَان والشِّعر والسِّدِّة.
وكذا ما نجده من بعض القواعد القديمة مثل: ( إم) الحميرية، وفتح التاء في مصنعت ومسفحت، و ( الكاف ) التي كانت تقوم مقام لام التعليل تارة ولمَّا تارة أخرى: كيصدق ( ليصدق )، كوصلوا ( لما وصل )، فكل هذا هو ما تبقى لنا من قواعد تلك اللغة المنقرضة.
ولقد وجدت لغتنا العربية الحديثة في اليمن مسرحًا خصبًا للانتشار والتشعب، وساعد على ذلك وضعها الجغرافي والعزلة والجبال والصحراء ومقتضيات التنقل والارتحال والعادات السائدة كالغزو والتجارة، والمؤاخاة والمجاورة، وتتبع الماء وانتجاع الكلأ .
كل هذه العوامل كانت سببًا في نشوء لهجات جديدة وغريبة. ولا غرو فجمعها يحتاج إلى أوقات وأسفار ومجلدات، ولم يكن هدفي من هذا البيان المختصر غير المساهمة في التعريف بهذه اللهجات، وكمقدمة لما أقوم به من وضع بحث عام وشامل عن صفاتها الصوتية وبنياتها الكلامية وقواعدها النحوية ومفرداتها اللغوية وما يتعلق بذلك من أمثال وحكم ونثر ونظم.
ولي عظيم الأمل في أن اللهجات اليمنية ستحظى باهتمام الكثير من علماء اللغة وأساطين اللهجات في " مجمع الخالدين "، وعلى الأخص أستاذنا الكبير إبراهيم أنيس الذي قدم لأبناء العروبة الكثير والنافع .
والله ولي التوفيق ،

(*) نشر البحث ببحوث ومحاضرات الدورة الخامسة والأربعين، الجلسة السابعة ، في 3 من فبراير سنة 1969 .
(1) انظر الجزء الثالث من كتاب " تاريخ اليمن الثقافي " لكاتب هذا البحث .
__________________
*سهيل*اليماني* غير متصل   الرد مع إقتباس