عرض مشاركة مفردة
غير مقروءة 10-01-2010, 07:30 AM   #13
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

القبارصة ينهبون الإسكندرية

(في ذكرى الاعتداء عليها: 23 من المحرم 767هـ)



لم تنته الحروب الصليبية في المشرق الإسلامي باسترداد المسلمين لمدينة عكا في (17 من جمادى الأولى سنة 690هـ=18 من مايو 1291م)، والتي ترتب عليها تصفية الوجود الصليبي في الساحل الشامي بعد احتلال دام قرنين من الزمان، وكان للسلطان المملوكي الأشرف خليل قلاوون شرف وضع هذه النهاية المشرقة، ووضع اسمه في قائمة أبطال المسلمين الذين قادوا حركة الجهاد ضد الصليبيين التي تضم آق سنقر، وعماد الدين زنكي، ونور الدين محمود، وصلاح الدين الأيوبي، والظاهر بيبرس.

وظن الناس أن هذه النهاية التي وضعها الأشرف خليل طوت صفحة الحروب الصليبية، وأن عهدا من العلاقات السلمية سينشأ من جديد، لكن ذلك كان ضربا من ضروب الأحلام، فقد كانت فكرة معاودة الغزو لا تزال تشغل أذهان بعض ملوك أوربا، وكان الحقد الدفين ضد المسلمين لا يزال يأكل صدور باباوات الكنيسة، وكان العدو ينتظر اللحظة المناسبة للغزو والانقضاض.

قبرص تجدد الدعوة للصليبية

تولى بطرس الأول لوزينان عرش قبرص سنة (760هـ=1359م)، خلفا لأبيه هيو الرابع، وكانت نفسه تطمح إلى أن يكون البطل المدافع عن المسيحية، وأن يكرس حياته لخدمة الحروب الصليبية، واستهل حكمه بمهاجمة شواطئ آسيا الصغرى وانتزاع عدة قواعد مهمة من السلاجقة الأتراك، لكن ذلك لم يكن كافيا لإشباع نهمه ورغبته في أن يكون بطلا يلقى تأييدا من الكنيسة، وتحيطه العيون بنظرات الإعجاب والتقدير، ففكر في القيام بحملة صليبية كبرى هدفها احتلال بيت المقدس، وطاف بغربي أوربا ثلاث سنوات للدعاية لحملته والحصول على معونات دولها، لكنه لم يجد ما كان يأمله من عون ومساعدة، ولم يظفر إلا بانضمام عدد كبير من صغار الفرسان ومباركة البابا أوربان الخامس لحملته، واحتشد لديه في النهاية مائة وخمس وستون سفينة مشحونة بالرجال والمؤن والسلاح، وتجمعت في مياه جزيرة رودس تنتظر الإبحار إلى الهدف المنشود.

التوجه إلى الإسكندرية

لم يكن بطرس الأول قد حدد المكان الذي يتوجه إليه ليضرب المسلمين في مقتل، فاستشار خاصته، فنصحه أحدهم بالتوجه إلى الإسكندرية وأن يهاجمها في يوم الجمعة، والمسلمون في المساجد، فقبل الملك هذه الفكرة بعد تردد، إذ كان يخشى مهاجمة مدينة عظيمة مثل الإسكندرية، ولم تكن مهاجمة مصر بعيدة عن أذهان قادة الحروب الصليبية من قبل فقد تعرضت لحملتين سابقتين، وباءتا بالفشل، وكان احتلال مصر في أذهان هؤلاء الغزاة خطوة أولى لاستخلاص الأراضي المقدسة من المسلمين.

واتخذ بطرس الأول الاحتياطات اللازمة لسرية الحملة، ومنع تسرب أخبارها إلى مصر فيستعد أمراؤها لمواجهة الحملة، وكان الغزاة قد اختاروا وقتا مناسبا لحملتهم، فنائب الإسكندرية صلاح الدين خليل بن عوام متغيب عنها لذهابه إلى أداء فريضة الحج، وحل محله أمير يدعى "جنغرا" ضعيف الشخصية، غير متمرس بأمر الحرب، لا يصلح لمواجهة مثل هذه الظروف.

ولم تكن تحركات الغزو خافية عن القائمين على الأمر في مصر على الرغم من السرية البالغة التي أحاطت بتحركات الحملة، غير أنها لم تؤخذ لدى المصريين على محمل الجدية، وكانوا يعتقدون "أن القبرصي أقل وأذل من أن يأتي إلى الإسكندرية"، وكل ما قام به نائب السلطنة في المدينة أن قام بتعلية سور المدينة القصير في بعض الجهات التي تواجه الميناء.

وفي الوقت الذي لم تستعد فيه الإسكندرية لمواجهة الخطر الذي سيحدق بها كان الملك القبرصي على دراية تامة بدفاعات المدينة ومواطن الضعف فيها.

ويصف النويري الإسكندراني وهو المؤرخ الوحيد الذي عاصر الحملة وشاهد كوارثها تلك الدفاعات وصفا لاذعا، فيقول: "وكان الخبر يأتي إلى القبرصي أن الإسكندرية بها طوائف قاعات يبيتون بساحل ميناها، ولم يعرفوا الحرب ولا باشروه أبدا، بل يخرجون متزينين بالملبوس، قد تطيلسوا من فوق العمائم التي على الرؤوس، يتبخترون في مشيتهم، ويتطيبون بطيبهم، فتزغرد لهم النسوان، ويصير كل واحد بزينته فرحان، ومعهم الأسلحة الثقال، ولكن ليس تحتها لموقف الحرب رجال، مع كل واحد منهم سيف تقلده، مجوهر النصل جيده، مزخرف بالذهب كجمرة نار ملتهب، ومع ذلك حامله جبان، يفزع من نعيق الغربان".

الحملة على شواطئ المدينة

وفي (20 من المحرم سنة 767هـ=7 من أكتوبر 1365م) قدم الأسطول القبرصي مدينة الإسكندرية في وسط أجواء مهيئة لنجاح مهمته على النحو الذي أشرنا إليه، وحسب الناس أن الأسطول القادم أسطول من البندقية جاء ليشتري التوابل كالمعتاد، فأسرعوا لرؤيته، غير أنهم فوجئوا بعد أن رسا على الشاطئ أنه جاء للغزو والنهب، وأن الجنود القبارصة جاءوا بسيوفهم المسلولة لضرب أهالي المدينة العزل من السلاح، وأدرك الناس الحقيقة ولم يكونوا مستعدين لمواجهتها، فاستولى عليهم الرعب، وقضوا ليلتهم في خوف وفزع.

وفي صباح اليوم التالي أقبلت السفن وقد ملأت البحر لكثرتها ورست على الشاطئ، وأيقن المدافعون عن المدينة بحقيقة الموقف العصيب، فأغلقوا أبوابها، وامتلأت قلاع المدينة المواجهة للميناء بالرجال والرماة، وتدافع الفرسان إلى أسوار المدينة لدفع الخطر القادم، وبذل الناس محاولات مستميتة في الدفاع والاستبسال، لكنها لم تستطع الصمود أمام هجمات القبارصة الذين نزلوا بر الإسكندرية في نهار يوم الجمعة الموافق 22 من المحرم، وانتظروا استعدادا للخطة الحاسمة التي ينقضون فيها على المدينة التي لم يحسن أمراؤها مواجهة هذا الهجوم الزاحف.

سقوط الإسكندرية

ولم يستطع المهاجمون الاقتراب في بادئ الأمر من أسوار المدينة وأبراجها الحصينة، خوفا من سهام المدافعين التي كانت تحصد كل من يقترب من الأسوار، ثم اكتشف العدو أن جانبا من السور خال من المدافعين، فنصبوا عليه سلالمهم الخشبية، وصعدوا عليها إلى أعلى السور، واتجه بعضهم إلى باب السور الذي في هذه الجهة، ويعرف بباب الديوان فأحرقوه، وقد أذهلت هذه المفاجأة المدافعين عن المدينة، بعد أن تدفق القبارصة إلى داخل المدينة، فعجزوا عن رد هذا الهجوم، وأصاب الناس فزع شديد، فاتجهوا نحو بوابات المدينة طلبا للأمان والنجاة بحياتهم، فضاقت الأبواب على الفارين لكثرتهم، فهلك منهم المئات من شدة الزحام.

وفي أثناء ذلك نجح نائب المدينة "جنغرا" بجمع ما في بيت المال من ذهب وفضة، وقبض على تجار الفرنج وقناصلهم بالمدينة وكانوا نحو خمسين وقادهم إلى دمنهور وهم مقيدون بالسلاسل.

ولم تمض ساعات حتى سقطت الإسكندرية في يد بطرس الأول ملك قبرص فدخلها باطمئنان وحوله جنوده، يمني نفسه ببناء إمارة صليبية، ويعيد ما كان لسلفه من الصليبيين من إمارات في بلاد الشام.

ويتعجب النويري المؤرخ المعاصر لهذه الكارثة لسقوط المدينة بهذه السهولة المفرطة، فقد جرت العادة أن تقاوم المدن شهورا وسنوات، وينحى باللائمة على أهل الثغر، ويتهمهم بالتفريط وعدم الثبات في المقاومة، إذ لو بقي كل واحد منهم بداره ورمى الفرنج من أعلاه بالطوب والحجارة لسلم للمسلمين ما بالدور على الأقل.

وحشية الغازي


وما أن دخل بطرس الأول وجنوده المدينة حتى قاموا بنهب الحوانيت والفنادق وأحرقوا القصور والخانات، واعتدوا على النساء، وخربوا الجوامع والمساجد، وقتلوا كل من وجدوه في الشوارع والمنازل والجوامع والحوانيت والحمامات، وبلغ من وحشيتهم ورغبتهم في التشفي أنهم كانوا يقتلون المرأة ويذبحون ابنها على صدرها، ولم يفرقوا في النهب والتدمير بين المنشآت الخاصة بالتجار المسلمين أو التي تخص المسيحيين مثل فنادق أهل جنوة ومرسيليا، ولم يقتصروا على ذلك، بل أخذوا معهم أسرى من المسلمين وأهل الذمة، وبلغ عددهم كما يقول النويري مؤرخ هذه الكارثة: "نحو خمسة آلاف نفر ما بين مسلم ومسلمة ويهودي ذمي ويهودية، ونصراني ونصرانية وإماء وأطفال"، وقد حملت سبعين سفينة قبرصية أكثر من طاقتها من الغنائم، حتى إنها اضطرت إلى إلقاء أجزاء من حمولتها في البحر، منعا لتعرضها للغرق أو الإبحار البطيء، فيعرضها بالتالي للمعارضة من قبل البحرية المصرية.

دخلها لصا وخرج منها لصا

بعد أن سقطت الإسكندرية فكر بطرس الأول في الاحتفاظ بالمدينة حتى تأتي النجدة من أوربا، لكن هذا الرأي لقي معارضة شديدة من قبل كثير من الأمراء الذين أجمعوا على ضرورة العودة والاكتفاء بما حققوه من غنائم، وأصروا على رأيهم، فاضطر الملك للرضوخ لرأيهم، في الوقت الذي تحركت فيه القاهرة، وبعثت بطلائعها العسكرية، لاسترداد المدينة، وطرد الغازي المحتل، فوصلت والصليبيون في مرحلة الإقلاع بسفنهم ودارت مفاوضات بين السلطات المصرية وبطرس الأول الذي بدأ في الانسحاب إلى البحر على تبادل الأسرى المسلمين بجميع التجار المسيحيين من الإفرنج وكانوا نحو خمسين لكن المفاوضات تعثرت بعد أن قرر بطرس الأول الإبحار بسرعة مكتفيا بما حققه من سلب ونهب، واحتلال دام بضعة أيام، وخوفا من أن تطارده البحرية المصرية.

احتفالات بنصر مزيف

ولما عاد بطرس الأول لوزجنان إلى قبرص أقيمت له احتفالات عظيمة، وأخذ هو في كتابة الرسائل إلى البابا وملوك أوربا يخبرهم بما أحرزه من نصر وما حققه من نجاح ويبرر لهم عدم احتفاظه بالإسكندرية بقلة ما في يديه من سلاح، ويؤكد لهم على معاودة الكرة مرة أخرى.

وفد أحدث هذا الحدث فرحا شديدا في أوربا، وبعث البابا إلى بطرس الأول مهنئا، كما أرسل إلى ملوك أوربا وأمرائها يناشدهم في الإسراع بتقديم العون والمساعدة للملك المظفر!

ثم تدخلت بعد ذلك مساعي الصلح بين سلطان مصر وبطرس الأول، ودارت مفاوضات بينهما لتبادل الأسرى وهو الشرط الذي وضعه السلطان للصلح، فوافق الملك بطرس على ذلك، وعاد الأسرى المسلمون إلى الإسكندرية.

قبرص ولاية مصرية

ولم تجد محاولات الصلح بين دولة المماليك في مصر وجزيرة قبرص التي دأبت سفنها على مهاجمة السفن المحملة بالبضائع إلى مصر؛ الأمر الذي أفزع السلاطين المماليك وهدد تجارة مصر في البحر المتوسط.

وظل الأمر على هذا النحو من التوتر حتى هاجم القراصنة القبارصة سنة (827هـ = 1424م) سفينتين بالقرب من دمياط تحملان بضائع وساقوهما إلى قبرص، ثم استولى "جانوس" ملك قبرص على سفينة محملة بالهدايا كان قد بعثها السلطان برسباي إلى السلطان العثماني مراد الثاني، وعلى إثر ذلك قرر السلطان برسباي وضع حد لهذا التعدي السافر، والقضاء على خطر القبارصة، فقرر فتح الجزيرة وضربها بيد من حديد، واستعد لهذا الأمر فأشرف بنفسه على بناء سفن جديدة في دار الصناعة ببولاق "وأمر ببناء سفن أخرى في بيروت وطرابلس حتى نجح في تكوين أسطول قوي قادر على تحقيق النصر".

وأرسل السلطان ثلاث حملات عسكرية لفتح جزيرة قبرص في ثلاث سنوات متتالية، نجحت الثالثة في أن تفتح الجزيرة بعد قتال عنيف سنة (829هـ = 1426م) وتوغلت داخل الجزيرة واحتلت عاصمتها نيوقسيا، وأحرقت الأسطول القبرصي وبعد أن دخل قائد الحملة الأمير تغري بردي المحمودي قصر الملك أعلن أن الجزيرة أصبحت من جملة بلاد السلطان الأشرف برسباي.

وعادت الحملة بعد هذا النصر الكبير إلى مصر، ومعها آلاف الأسرى، وعلى رأسهم جانوس ملك قبرص، فخرجت القاهرة لاستقبالها باحتفال مهيب، وعندما دخل الملك القبرصي على السلطان قبل الأرض وأخذ يستعطف السلطان.

وبعد مباحثات جرت بين الملك القبرصي والسلطان المصري، وافق الأخير على إطلاق جانوس مقابل فدية قدرها مائتي ألف دينار، وأن يكون نائبا للسلطان في الجزيرة، وبذلك أصبحت قبرص ولاية مصرية.
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس