عرض مشاركة مفردة
غير مقروءة 27-12-2014, 03:14 PM   #10
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

التشاور بالأمر الاقتصادي



(1)



يظن البعض أن الديمقراطية والشورى تؤديان نفس الدور، فلا بأس من إتبّاع النهج الديمقراطي إذن، وهذا الظن آتٍ من الزخم الأكبر من الكتابات الفكرية والسياسية التي كُتبت لصالح الديمقراطية، في حين لم يجد نظام الشورى هذا الكم من الكتابات والشرح الذي حظي بها الأسلوب الديمقراطي. وقد تكون الكتابات التي جاءت في صالح الديمقراطية أكثر إقناعاً للمطلعين عليها، لأنها كانت محاذية ومرافقة بنقدها وتأييدها للنهج الديمقراطي للحظات حدوث تفاصيله، في حين ما كُتب عن الشورى، كان من باب التصور أو التمني لما يرغبه الكاتب في نظام الشورى الذي كان متبعاً جزئياً منذ زمن بعيد.

لو أخذنا الأسرة كنموذج مصغر لجماعة إنسانية، فإنها تلجأ للمشاورة في شأن اقتصادي أو اجتماعي مهم، فلا تتشاور تلك الأسرة بكمية الملح المضاف على (طبخة) فهذه المسألة متروكة لمهارات ربة المنزل، ولا تتشاور في القيام للصلاة فهذا فرض لا يتم التشاور فيه. لكنها تتشاور في مسألة بناء غرفة إضافية أو تزويج أحد الأبناء أو البنات، فيطرحون كل المعلومات المتيسرة لديهم حول الشأن المتروك للمشاورة، ثم يبدون آرائهم، وعندما لم تحصل قناعة يقترحون أحداً من الأقارب أو الأصدقاء لاستشارته.

في أمور أحياء العرب القديمة، كان هناك ديوان لكل حي يجتمع فيه أكثر من في الحي حكمة ومعرفة أو حتى عمراً أو عدداً (من التابعين: أبناء أحفاد الخ)، ويتداولون أمر الرحيل أو الإغارة على آخرين.

لم يذكر التاريخ أنه كانت تجري عمليات اقتراع وألواح لفرز الأصوات، بل كانت الأمور تتم بسلاسة متناهية، فإذا دخلت مجموعة الى مكان، تراجع من يرى في نفسه عدم أهلية للصدارة، وتتعالى أصوات لتقديم من هو أجدر. وإذا جلسوا لأمر ما في ديوان غيرهم، ولم يعرف المضيفون من هو الشخص الأكثر أهمية بين الضيوف، بادر الضيوف بتقديم من هو أكثر أهلية: ضع فنجان القهوة أمام (فلان)، كل ذلك كان يتم بتوافق لحظي لا يترك أثراً سيئاً كما تتركه مواقف الناس التي تفشل في الانتخابات الحالية.

عندما تدرب العرب بالتكرار على تلك السلوكيات، لم يكونوا ليتضايقوا إذا ما وجهت دعوة لأربعين شخص لتناول الطعام، من حي مكون من ثمانمائة رجل إذا كان من دعا قد ساوى بين المدعوين، فلا يدعو اثنين من بيت واحد، عندها يُدرك من لم يُدعى بأن أباه أو أخاه الأكبر قد وجهت له الدعوة، فلا يتكدر من ذلك لأنه هو لو قام بالدعوة لاتبع نفس الطريقة.

(2)

على شواطئ البحار والمحيطات تجد عشرات الآلاف من السلاحف المفقوسة حديثاً تتراكض حتى تصل المياه، وفي طريقها يذهب أكثر من 95% منها طعاماً لطيور أو مفترسات تتربص بها، وفي تزاوج النحل تطير الملكة بأقصى سرعتها أمام مجموعة هائلة من الذكور، التي ربتها الشغالات لهذا الغرض، ويلحق بالملكة أكثر الذكور قوة وسرعة، وبعد التزاوج يموت الذكر! هذا الانتخاب الطبيعي في الطبيعة.

أما الانتخاب على الطريقة الغربية، فليس هناك أي رجل متوسط القدرة العقلية يستطيع أن يوافق أن (بوش الابن)*1 كان هو الذكر الأجدر بإدارة الولايات المتحدة، لقد كان حجم التبرعات التي تبرع بها مؤيدو جورج بوش الابن نصف مليار دولار، في حين كان حجم التبرعات التي تبرع بها أنصار (أل غور) 447 مليون دولار*2

لكن لماذا يتبرع المتبرعون في الانتخابات الرئاسية الأمريكية؟ تجيب (لانيل أندرسون) التي تصف موقع لتصنيع المشتقات النفطية في (هيوستن) مليء بالنفايات والقاذورات والروائح السامة يمتلكه رجل تبرع ب (48) مليون دولار، في حين لم يتجرأ أحد أن يشرع للحفاظ على البيئة أو تحميل أمثال هذا المتبرع السخي الذي لو كان هناك نزاهة أو محافظة على البلاد وأجوائها لطولب بأضعاف ما تبرع به. لقد لخصت تلك الناشطة (وهي بالأصل وكيلة عقارات) مسألة المتبرعين ب (( يرقص المتبرعون مع من يتبرعون لهم حسب ما يعود عليهم نجاحهم من فوائد!)).

إذن، فالاقتصاد يسوسه رجال مستفيدون، ويستخدمون أجهزة إعلام منافقة (يملكونها) تضخم وتشيطن أحوال خصومهم (عالميا)، وتغض النظر عن جرائمهم، بل وتنفيها وتذكر عكسها.



(3)


لم يفلح المسلمون ولا العرب، بتطوير منهاج الشورى، والذي يُعتبر أكثر (حميمية) وأكثر التصاقاً بالنهج الشرعي والأخلاقي، وقد يكون السبب الرئيسي في ذلك، هو خِشية المستفيدين من فقدان مكاسبهم التي حصلوا عليها، ولذلك كانوا يستبعدون القضاة المستقيمين وأصحاب العدل.

لقد ذكر الحسن البصري رحمه الله تراجع الشورى فقال: (( أفسد أمر هذه الأمة اثنان: عمرو ابن العاص يوم أشار على معاوية برفع المصاحف؛ والمغيرة ابن شعبة حين أشار بالبيعة ليزيد، ولولا ذلك لكانت شورى الى يوم القيامة))*3

وعندما تنزلق الأمور عن مسارها الصحيح، فإن القائمين على الحكم يستسهلوا الابتعاد عن الشرع وعن مقاصده، فهذا الحجاج أبقى على الجزية رغم وجود النصوص واضحة في إسقاطها عن الذين يعلنون إسلامهم، فتبريره بذلك أن بيت مال المسلمين سيصيبه العجز والنقص*4

وهذا سليمان بن عبد الملك يكتب لمتولي الخراج في مصر (أسامة بن زيد التنوخي) متعسفاً: احلب الدر حتى ينقطع فإذا ما انقطع فاحلب الدم حتى ينصرم*5

لما تولى عمر ابن عبد العزيز الحكم بعد سليمان بن عبد الملك، كره أخوة سليمان ذلك ثم قبلوه على مضض، وكان أعلم الناس بأمور الدين والدنيا، ومع ذلك طلب من (سالم بن عبد الله بن عمر) أن يكتب له سيرة عمر ابن الخطاب ليمشي على نهجه، فأعاد الشورى وضبط أموال الدولة ونشر العدل، واسترد المزارع التي كانت إقطاعيات لبني أمية ووزعها على الفقراء، حتى أهل الكتاب استفادوا من عدله فقد رد لهم كنيسة في الشام كان أولاد عمه قد أخذوها منهم*6

وبعد وفاة عمر ابن عبد العزيز عن عمر لم يصل فيه الأربعين عاماً، وبمدة حكم لم تتجاوز السنتين والنصف لا زال ذكرها العطر حتى اليوم رغم قصرها، وقيل أنه مات مسموماً من كارهيه، تراجعت الشورى مرة أخرى.





هوامش
*1ـ رجال بيض أغبياء/ مايكل موور/ بيروت: الدار العربية للعلوم ـ ناشرون/ 2004 صفحة 51.
*2ـ أفضل ديمقراطية يستطيع المال شراءها/ غريغ بالاست/ترجمة مركز الترجمة بالدار/ بيروت: الدار العربية للعلوم ـ ناشرون/ 2004 صفحة 91.
*3ـ تاريخ الخلفاء للسيوطي صفحة 79.
*4ـ الإسلام وأهل الذمة/ علي حسن الخربوطلي/ طبعة المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية صفحة 137
*5ـ السياسة المالية لعمر ابن عبد العزيز/ قطب إبراهيم محمد/ الهيئة المصرية العامة للكتاب 1988 صفحة 20.
*6ـ عمر ابن عبد العزيز/ سعد عبد السلام حبيب/ نقلاً عن البلاذري صفحة 71.
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس