عرض مشاركة مفردة
غير مقروءة 27-11-2014, 10:48 PM   #5
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

المبالغة في تكييف النصوص الدينية بما يخدم نظام الحكم


علينا أن لا نتوهم بأننا أصحاب فكرٍ وحيد في العالم وعلى مر التاريخ يُنادي بالعدالة الاجتماعية، هذا الهاجس الذي أشغل البشرية منذ نشأتها، ولا يزال يشغلها حتى يومنا هذا. ففي الشرق ظهرت ديانات وثنية ك (الطاوية، والكونفوشيوسية) تحمل دعوات للعدالة الاجتماعية عن طريق المناداة بمشاعة الثروة؛ وفي إيران القديمة ظهرت (المزدكية) التي أعلنت صراحة الى تحطيم الطبقات المنغلقة الذي ركز الثروة في أيدي الأكاسرة والطبقات المحيطة بهم لحمايتهم.

ونحن إذ نعترف بذلك، لا يمنعنا ذلك من أن نتفاخر بأن دين الإسلام قد كَثَّف كل ما هو خَيّر من الديانات والأعراف والتقاليد التي سبقت الإسلام، ووضع لها ضوابطها وفقهها الخاص وطرائق حمايتها من العبث، حتى غدت قواعد تحمل بذور ديمومتها وبقائها الى قيام الساعة فيما لو وجدت من ينفذها بأمانة وإيمان.

في جميع الأحوال، حيث تصدر تعليمات، سماوية كانت، أم وضعية، فإنها لن تكتسب قيمتها الحقيقية إلا في التنفيذ والتطبيق. وقد أورد عالم الاجتماع (علي الوردي) طرفة تؤدي لنفس المعنى والاستنتاج، حيث قال: دخل إعرابي على سوق الوراقين (حيث تُباع الكُتب) في إحدى المدن العراقية القديمة وقال: أراهنكم أنني أعرف ما تحتويه كل هذه الكُتب! فاستغرب الحضور من قوله وهو رجلٌ أمي فسألوه: كيف ذلك يا ابن العرب؟ فقال: كلها تقول (يا هذا صير خوش آدمي: أي أنها تدعو الى الفضيلة).

(1)

لو أخذنا مسألة واحدة أتت في النصوص القرآنية وركزنا على كيفية التعامل معها على مر العصور الإسلامية، وكيف قام المؤولون بتأويلها وِفق الحالة السياسية القائمة، لوجدنا أن إمكانية التكييف تتم بما يلاءم الوضع السائد وعلى حساب روحية النص.

المؤلفة قلوبهم: {إنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ }[التوبة 60]، وهؤلاء عدة أصناف منهم الشريف ومسموع الكلمة بين قومه، كأبي سفيان وابنه معاوية وعيينة بن حصن وعباس ابن مرداس، وقد جاء في الأثر أن الرسول صلوات الله عليه، كان يعطيهم سدس حصته من الغنائم.

عندما توفي رسول الله صلوات الله عليه، جاء هؤلاء الى أبي بكر فأعطاهم كتاباً الى عمر ابن الخطاب رضوان الله عليهما، من أجل أن يعطيهم، فمزقه وقال: لا حاجة لنا بكم فقد أعز الله الإسلام وأغنى عنكم، فإن أسلمتم وإلا السيف بيننا وبينكم فرجعوا الى أبي بكر وسألوا: أأنت الخليفة أم هو؟ فأجاب: بل هو، ونفذ رأي عمر..*1

لا نريد أن نستجوب ذلك الموقف من زاوية دينية، فقد اعترض عليه كثيرون على مر التاريخ كونه (نص) بين واضح لا يجوز التحايل عليه، كما أيده الكثيرون أيضاً، بحجة أن الظروف قد تغيرت، وقد تكون هذه الآيات ملائمة لظرف نزولها، كما كانت آية (الجمع بين الأختين)، [النساء 23]، فمنذ نزول الآية حتى يومنا هذا لم يجمع أي مسلم بين الأختين.


إن العلاقة بين الصحابيين الجليلين (أبو بكر وعمر)، هي علاقة صحابة تتلمذوا على يد رسول الله صلوات الله عليه، فالهم الأول عندهم هو إحقاق الحق، وقد يتبادل الصحابيان الأدوار، فيكون أبو بكر حازماً وعمر ليناً، ففي حروب الردة، اعترض عمر لدى أبي بكر على محاربة مانعي الزكاة، مستنداً الى أنهم شهدوا أن (لا إله إلا الله؛ محمداً رسول الله)، فلو أمهلوا وأعطيت لهم حصة المؤلفة قلوبهم، لقوي إسلامهم. رد أبو بكر: أجبارٌ في الجاهلية، خوارٌ في الإسلام؟

(2)

ما إن استتب الأمن وتوسعت دولة المسلمين، حتى أخذ حب الدنيا يتصارع مع حب الآخرة، وعندما يكون هناك رقيبٌ من المسلمين يضرب على أيدي العابثين بقوة فإنهم سيحسبون ألف حساب.

عندما عاد أبو هريرة من البحرين وكان عاملا عليها، أحضر معه مالا كثيراً، فقام عمر بإحصاء المال وقال له: (استعملتك على البحرين، وأنت بلا نعلين، ثم بلغني أنك ابتعت أفراساً بألف وستمائة دينار، فقال: هي أفراسي تناتجت عندي فقال له: حسبنا لك كل شيء فضربه بالدرة حتى أدمى ظهره،فرد المال الى بيت المال، فقال: سأردها واحتسبها عند الله، فقال له عمر: هذا لو كانت من حلال مالك.*2


(3)

ونحن نتأمل بالقصة السابقة، فإننا نجد أن عاملا كأبي هريرة، نُقل عنه الحديث، وهو بتلك المآخذ الدنيوية التي كشفها عمر، وقد يكون الاثنان بنفس الدرجة من التقوى والورع، ومن حولهم لا زال معظمهم قد استمع الى رسول الله صلوات الله عليه. كيف لنا في هذه الأيام أن نجد مثل نقاوة ذلك السلف الصالح؟. ولنحذر طبعاً من اتخاذ موقف سلبي من صحابة رسول الله، فهم من ساهم في تأسيس مجتمع إسلامي، وتمشياً مع الحديث القائل ((من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها الى يوم القيامة)).

والضعف في المسألة آتٍ من الطبيعة الإنسانية، الممزوجة بالضعف والطمع وحب السلطة، وعدم توصل المسلمين لحد اليوم في إيجاد ضابط لتناقل السلطة ولجم من يريد أن يستقوي على المسلمين.

لقد تم تكييف لفظ (المؤلفة قلوبهم) في العهد الأموي بصورة يخجل المنتمون لهذه الأمة وبهم ذرة إيمان منها.

ستسوق أحداث الأمويين واعتبارهم سادة على البلاد المفتوحة، حتى يظهر فكرٌ يعادي مثل تلك الأنظمة، ولكن مؤرخو السلاطين يتهموا هؤلاء بالمروق من الدين وإشاعة طقوس غريبة!*3

وقد ساهم علماء الدين، في حماية الأنظمة، ولا يزالوا، وفي العهد الحديث كنا رأينا كيف أن شيخ الأزهر عبد الحليم محمود في عهد الرئيس جمال عبد الناصر قد أفتى أن الاشتراكية هي أساس الاقتصاد الإسلامي، ولكنه في عهد السادات قال إن الدين الإسلامي هو دين الرأسمالية، واستشهد بعشرات الأغنياء من المسلمين الذين أمدوا الدعوة بالمال*4


(4)

لقد أصبحت فكرة المؤلفة قلوبهم، وكأنها عباءة ممزقة يخرج المفتي يده من أي خرق، حتى أن الغرب اكتشف ذلك عندنا، فابتدع المساعدات الشخصية للملوك والرؤساء، ولدولهم، ولجمعياتهم الخيرية، وذلك للنفاذ الى قلب الأمة.

لم يعد هناك مانع من تعيين ثلاث رؤساء وزراء من بيت واحد، ولا وزراء ولا أصحاب رتب الجيش العليا، إنهم يُعينوا تحت فقه المؤلفة قلوبهم وهو في الحقيقة غير ذلك، إنهم أنظمة غير شعبية لا تسأل عن الشعب ولا تثق فيه، فتخترع بؤراً لتفريخ المناصب العليا بحجة أمن النظام الذي يُستبدل بالمؤلفة قلوبهم.





هوامش
*1ـ السيوطي/ الدر المنثور/ ج3 صفحة 251
*2ـ أبو ذر الغفاري/ عبد الحميد جودة السحار/ القاهرة 1943 صفحة 156.
*3ـ النزعات المادية في الفلسفة الإسلامية/ حسين مروة /بيروت 1978 الجزء الثاني يتكلم عن مثل تلك النماذج.
*4ـ المهمشون في التاريخ الأوروبي/محمود إسماعيل/ القاهرة: رؤية للنشر 2009 صفحة 17.
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس