عرض مشاركة مفردة
غير مقروءة 13-02-2010, 08:44 PM   #3
ياسمين
مشرفة Non-Arabic Forum واستراحة الخيمة
 
الصورة الرمزية لـ ياسمين
 
تاريخ التّسجيل: Apr 2008
الإقامة: المغرب
المشاركات: 2,102
إفتراضي

2- مفهوم "التقدم" ... والرجوع إلى أصل المسألة..!
إذا نحن انتقلنا بهذا السؤال إلى فضاء تاريخ الفكر الفلسفي فإننا سنحصل على جواب نلخصه في الفقرات التالية (قبل الانتقال إلى الخوض فيه بتفصيل):
لم يبدأ المستقبل –كما ننظر إليه اليوم- يدخل في دائرة المفكر فيه في الفكر الفلسفي إلا مع النهضة الأوروبية، وبالخصوص في القرن الثامن عشر مع ظهور "فلسفة التاريخ" في ألمانيا مع كل من هردر وكانط وهيجل، هؤلاء الذي أعطوا للتاريخ معنى من خلال فكرة "التقدم".
ومن أجل التأسيس لهذا المنطلق ارتأينا التذكير هنا بما ميز به كل من هردر وكانط تصورهما للتاريخ عندما صرَّحا، في إطار السجال الذي قام بينهما، بأن المهم ليس ما يختلفان فيه بل المهم –في نظرهما- هو أن لا تصير فلسفتهما للتاريخ على "طريق ابن رشد"، الذي تصور "التقدم" على أنه عملية تتم على صعيد "النوع" الإنساني، بينما يرى هذان الفيلسوفان أن التاريخ الذي هو مسرح للتقدم والذي يشكل موضوعا لفلسفة التاريخ، هو التاريخ البشري كما يتشخص في الحضارات المتعاقبة. ومن هنا السؤال الذي يفرض نفسه علينا تاريخيا، وهو: لقد دعا هردر وكانط إلى تدشين قطيعة مع ابن رشد، فلماذا لم يفعل هذا الأخير مثل ذلك مع أفلاطون، مع أنه خالفه في مسألة أساسية، وهي رفضه ليأسه –يأس أفلاطون- من إقامة "المدينة الفاضلة" على الأرض، بينما يرى هو –ابن رشد- بأن ذلك ممكن "في زماننا هذا وبلدنا هذا"، يقصد الأندلس في عصره؟
كان لابد أن يؤدي بنا هذا السؤال –الذي يستعيد أفلاطون- إلى طرح التصور اليوناني الدائري للزمن والتاريخ (الذي لا مكان فيه للتقدم بل كل شيء يدور ويتكرر)، وهو التصور الذي بقي سائدا، بهذه الدرجة أو تلك عند مفكري الإسلام بما فيهم ابن رشد، وابن خلدون أيضا، كما بقي سائدا في أوروبا نفسها طوال العصور الوسطى إلى عصر النهضة، ولم تتخلص منه نهائيا إلا مع الفيلسوف الألماني إيمانوييل كانط الذي أدخل بصورة حاسمة مفهوم "التقدم" في التاريخ. وكان ذلك، بطبيعة الحال، نوعا من التعبير عن التحول التاريخي الكبير الذي كانت أوروبا مسرحا لـه في زمانه: الثورة العلمية (نيوتن) والثورة الصناعية، خاصة في بريطانيا، والثورة السياسية الاجتماعية (الثورة الفرنسية).
ومع أن التقدم الذي كان حقيقة ملموسة في الميادين العلمية والصناعية والسياسية قد قطع نهائيا -أو كان يعني على الأقل- القطيعة مع الوضع السابق، فإن نقل مفهوم "التقدم" إلى ميدان التاريخ، -وهذا هو الأساس الذي قامت عليه فلسفة التاريخ الألمانية أو الإيديولوجية الألمانية بتعبير كارل ماركس- كان يعني إعادة بناء التاريخ بالصورة التي تجعل من الحاضر، وبالتالي المستقبل، نتيجة طبيعية للماضي. ومن هنا دخل "الماضي"، لأول مرة في التاريخ، كعنصر ضروري في كل تفكير في المستقبل، وصار التفكير في "الماضي" أي كتابة التاريخ، وبالأحرى فلسفته، موجها هو الآخر بحاجةِ المستقبل إليه. وبدون هذا النوع من "شهادة" الماضي لفائدة المستقبل، و"حاجة" الماضي نفسه إلى إسقاط المستقبل عليه نوعا من الإسقاط، لم يكن من الممكن التبشير بمستقبل للإنسانية تتحقق فيه الحرية والعدالة وكل صنوف "التقدم"، كما فعل كانط وفلاسفة الأنوار عامة.
كان ذلك هو محور ما عرف بـ"فلسفة الأنوار". إنه "الحداثة" باختصار. وبما أن "التاريخ" لا يسير دائما حسب تصور الناس ولا حسب رغباتهم، فقد تبين بسرعة، من خلال الأحداث والوقائع، أن "الأنوار" لم تف بوعودها وأن "الحداثة" قد خانت قضيتها، وأن تصحيح الوضع أصبح يتطلب إعادة الاعتبار للفرد وحريته وتلقائيته ومعقولـه ولامعقولـه، وبالتالي التحرر من هيمنة فلسفة "التاريخ" وأوهامها. ومن هنا "النزعة الوضعية" ونزعة "ما بعد الحداثة"، في آن واحد!
هذا الطرح التاريخي لإشكالية علاقة المستقبل بالماضي والماضي بالمستقبل، قد مكننا في هذه المحاولة من النظر إلى الموضوع من زاوية النسبية. وهكذا ميزنا بين هذه الإشكالية كما تطرح في الغرب، وبين الوضع في العالم الثالث، لنختم بالنظر إلى الموضوع من خلال معطيات ما يعرف اليوم بـ "العولمة". وفي هذا المجال خلصنا إلى نتيجة نعتبرها أساسية وهي أن الرغبة في التحرر من قيود الماضي أو من أوهام المستقبل أو منهما معا، يجب أن لا تنسينا الحاضر. ليس فقط لأن عملية التحرير المطلوبة لا يمكن أن تتم إلا في "حاضر"، بل أيضا لأن ما يجعل المستقبل مرهونا للماضي ليس هو الماضي نفسه بل حاجة الحاضر إليه، تماما مثلما أن ما يدفع إلى إسقاط طموحات المستقبل على الماضي ليس المستقبل نفسه، بل عجز الحاضر عن تحقيقها.
وما يطبع حاضرنا اليوم –في عصر العولمة- هو فعلا هذه الثورة التي لم يسبق لها مثيل على مستوى الاتصال ونشر المعلومات، والتي من خصائصها أنها بصدد إنشاء جيل محرر من "الماضي" تماما: من الانتماء الجغرافي والتاريخي والثقافي، وباختصار من الانتماء القومي. هذا صحيح، ولكن هذا ليس إلا أحد وجهي عالم "العولمة". أما الوجه الآخر فهو ذلك الجيل الأكثر عددا والذي تعج به شوارع بلدان العالم الثالث، وأيضا أحياء مدن العالم "الأول" –المتقدم المصنع- الجيل الذي يعاني من الفقر وسوء التغذية ومن الأمية والبطالة الخ. وبما أن هذا الجيل من أبناء الفقراء لا يرى أي بصيص من النور في "المستقبل الآتي"، فهل يمكن أن نحول دونه ودون الاستلاب في "المستقبل الماضي"؟
ممكن. ولكن شريطة أن يكون ذلك مرفوقا بتحسين أوضاع الحاضر.
هذا من جهة. ومن جهة أخرى يبدو أن الجوانب الإيجابية في "العولمة" لن يكون لها ذلك الدور المأمول منها في تعميم المعرفة إلا إذا تحررت المعرفة من الاحتكار الذي تمارسه الدول المصنعة، وبالخصوص منها الرافعة شعار العولمة مقرونا بسلوك يستهدف الهيمنة على العالم.
***
بعد هذا الجواب/ الخلاصة على السؤال الذي طرحناه أعلاه ننتقل إلى تفصيل ما أوجزنا منطلقين من الوجه الفلسفي "الخالص" للمسألة، فنتساءل: ما هي حقيقة العلاقة، التي أشرنا إليها أعلاه، بين ابن رشد من جهة والفيلسوفين الألمانيين، هردر وكانط، من جهة أخرى، وهما اللذان يعتبران المؤسسين لفلسفة التاريخ في الفكر الحديث، التي في إطارها تطرح العلاقة بين الماضي المستقبل؟
للجواب عن هذا السؤال يجب أن نعود إلى شرح فيلسوف قرطبة لـ"كتاب النفس" لأرسطو، وهو الكتاب الذي يحيل إليه في كتبه الأخرى بوصفه يتضمن رأيه النهائي في المسائل التي تركها أرسطو معلقة، وبالخصوص منها طبيعة ذلك الجزء من النفس البشرية الذي سماه أرسطو بـ "العقل بالقوة" intellect en puissance وعُرف عند شراحه بـ"العقل الهيولاني" أو "المادي" intellect materiel، والمقصود: ذلك الجزء من العقل البشري الذي هو عبارة عن الاستعداد لتقبل المعقولات intelligibles، أي المفاهيم والتصورات والأحكام التي ليس لها وجود حسي.
وبما أن كل "ما هو بالقوة" en puissance (أي ما وجوده ممكن فقط وليس قائما بالفعل) لابد له من ذات أخرى تنقله إلى الفعل en acte ، حسب المنظومة الأرسطية، فإن تحول هذا "الاستعداد العقلي" في الإنسان إلى "عقل بالفعل" يمارس فعالياته العقلية يحتاج إلى عقل من مرتبة أعلى يقوم بهذه المهمة، سمي بـ "العقل الفاعل"" intellect agent. وقد قطع أرسطو في أمر هذا العقل الأخير، فقال عنه إنه "مفارق séparé ، ليس مختلطا بالمحسوسات أصلا، وبالتالي فهو لا يفنى بفناء المحسوسات، بل من طبيعته أنه خالد أزلي، لا يفسد ولا يفنى بفناء أشخاص النوع الإنساني. وقد جعل منه بعض شراح أرسطو الإله نفسه، بينما جعل منه آخرون كائنا إلهيا في مرتبة أدنى من الله.
أما "العقل الهيولاني"، أي الذي حاله حال "القوة" والاستعداد، فقد جاءت عبارة أرسطو عنه غامضة تحتمل القول بفساده corruption وعدم أزليته وتحتمل العكس -على الأقل في الترجمة العربية التي اشتغل عليها ابن رشد.
تصدى ابن رشد لهذه المشكلة فحلل كعادته آراء شراح أرسطو السابقين، مثل الإسكندر الإفروديسي d’AphrodiseAlexandre وثامسطيوس Thémistius ، وبين مواطن الضعف فيها وانتهى إلى رأي خاص يقول بأزلية العقل الهيولاني، ولكن دون أن يعني ذلك أنه يقع خارج النفس البشرية. فالعقل الإنساني واحد عند ابن رشد. وما نسميه العقل الهيولاني، والعقل الفاعل أو الفعال، والعقل بالفعل أو المكتسب، ليس سوى مظاهر ثلاثة للنفس العاقلة، توجد كلها داخل النفس وليس خارجها وهي واحدة في حقيقتها، وإنما تتبدَّى في صورة "العقل بالقوة" باعتبار، وفي صورة "العقل الفاعل" باعتبار، وعلى هيأة "عقل بالفعل" باعتبار آخر.
والمشكلة التي تعترض القول بأزلية العقل الهيولاني –وهو، كما قلنا، ذلك الاستعداد الذي في النفس لأن يصير عقلا بالفعل يمارس عملية التعقل- هي أن أفراد البشر الذين يتميزون كنوع، بالعقل، تفنى أجسادهم وبالتالي يفنى معها كل ما يرجع في عقولهم ومعارفهم إلى الإحساسات والمحسوسات. فكيف يمكن تصور أزلية العقل البشري أو جزء منه أو مظهر من مظاهره والحالة هذه؟

يتبع
__________________



" كان بودي أن آتيكم ,, ولكن شوارعكم حمراء ,,

وأنا لا أملك إلا ثوبي الأبيض ",,

* * *

دعــهــم يتــقــاولــون

فـلــن يـخــرج الـبحــر

عــن صمته!!!


آخر تعديل بواسطة ياسمين ، 13-02-2010 الساعة 09:08 PM.
ياسمين غير متصل   الرد مع إقتباس