عرض مشاركة مفردة
غير مقروءة 07-06-2007, 02:44 PM   #95
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

عقل عربي أم عقول عربية؟

عندما تناول المفكر محمد عابد الجابري، موضوع العقل العربي، ووضع به ما يشبه الموسوعة الفكرية الشاملة في عدة كتب قيمة، هي: تكوين العقل العربي وبنية العقل العربي، والعقل العربي السياسي، والخطاب العربي النهضوي، والتراث والحداثة وغيرها*1 ولم يبتعد في كتاباته الأخرى عن محور العقل العربي، فهو يعود الى هذا المحور عندما يتكلم عن الدولة والدين وعندما يتكلم عن (الإبستومولوجيا) لا يفارق محوره المفضل .. وأجد نفسي منحازا باعتزاز لنمطية مناقشاته تلك..

بهذه الأثناء ظهرت رؤى يتبناها مفكرون عرب آخرون، تتضاد مع منهجية الجابري، في محاكمته للعقل العربي، ولا أزعم أنني اطلعت عليها كاملة، كما لا أزعم بنفس الوقت أنني أكملت هضم منتجات الجابري بكمها الغزير. وتلك قضية أخرى لا تخلو من مبعث للشعور بالأسى والبؤس، خصوصا إذا كان ادعاؤنا نحن الطبقة الثالثة من المثقفين العرب، وفق التراتب الذي يضع المفكرين الكبار في المرتبة الأولى والمختصين الجامعيين من أساتذة، وكبار كتاب الصحافة والإعلام في المرتبة الثانية. وعندما يكون ادعاؤنا بأننا نشكل مقاربة تجسر أعمال من هم أكثر رقي منا مع من هم مثلنا أو بعدنا، فإن مهمتنا تكون منقوصة بشكل خطير عندما لا نستكمل فهم ما يُكتب ويُترجم من أعمال فكرية عظيمة..

وقد تكون حجج من ينتقدون منهج الجابري في محاكمة العقل العربي أو تحليله، تحمل في ثناياها بعض الوجاهة .. وإن كان بعضهم يغالي في النقد، فينكر أن هناك عقلا عربيا (هشام غصيب*2) فإن هناك من يقول أن هناك عقولا عربية .. وقد اختلف قسم منهم في الأسلوب ، ولم يعترض صراحة على المنهج كما فعل (عبد الله العروي)*3 و (أبو يعرب المرزوقي)*4


ولكن من يتتبع استنطاق الجابري للتاريخ والتراث والثقافة، سيدرك أهمية منهجه، الذي سيكشف بالنهاية الحالة الراهنة للعقل العربي، من خلال تتبع نتوءات المعرفة*5، وما تراكم ويتراكم على تلك النتوءات من معارف، والتي كونت في النهاية الوعاء (العقلي) العربي الراهن، بشكله المشخص بالاضطراب والمساجلة والتموج بين منحى وآخر ..

إذا كان العقل للإنسان الفرد، هو ما يملي عليه ما سيتخذ من ردة فعل تجاه ما يواجهه من مواقف حادة، أو ما يعرض عليه من آراء، تقبل التصديق والتكذيب، فيكون قرار الفرد صادرا من (أداة العقل) الذي يؤدي عمله على هدي ما تراكم في (وعاءه) المعرفي من معلومات يستدل من خلال تشابهها مع يمر به بشكل لحظي ..

فإن كان نوع الحدث، التعامل مع حالة اصطدام مركبة يقودها الفرد بمركبة أخرى أو بشخص يسير في الطريق، فإن عقل الفرد يأمره بشكل فوري باتخاذ ما يلزم، من التوقف وانتظار شرطي المرور أو التصالح الفوري أو الوصول للقضاء والاستعانة بأحد المحامين، أو أحيانا يأمره عقله بالهرب والاختفاء من ساحة الحدث!


وإن عُرض على الفرد خبرا من محطة تلفزيونية، فإنه سيعيد الخبر الى جذوره، ويستعيد تاريخ ما يعرف عن هذه المحطة وفهرس مثيلات الخبر المذاع ومدى صدقه أو كذبه، مقارنة بمحطات أخرى..

هذا، بالنسبة للفرد، وهو جزء ضئيل جدا من مجتمع أكبر هو الشعب أو الأمة، وكل واحد منهم له أداء مختلف عن الآخر كاختلاف البصمات، فكيف يكون هناك إذن عقل جماعي يشمل كل المجتمع بأفراده ؟

هل نتحدث إذن عن عقل عربي أم عقول عربية؟ هنا تكمن مواطن الاختلاف في المناهج بين المفكرين العرب، ومن يتأثر بهم من جمهور المثقفين في مختلف تراتبهم الثقافي ..

لكن في المثالين السابقين، اعتمد الفرد على حصيلة تجارب مشابهة لما مر بها هو، أو سمع من أصدقاءه أو أبناء مجتمعه، أو ما قرأ عنه من تجارب مشابهة حدثت في أزمنة وأمكنة مختلفة، وسيتم نسيان من ابتدأ التجربة حتى لو كان مخترعا علميا، وتصبح تلك التجربة مكوِن من مكونات التراث المحلي أو القومي أو العالمي، بمختلف المناحي العلمية والحربية والأدبية والدينية الخ

لا يُعقَل أنه إذا أراد أحدٌ أن يفكر بتصنيع سيارة، أن يجعل إطاراتها مربعة الشكل، ثم يكتشف بعد ذلك أنها لو كانت دائرية لكانت أفضل! فعمومية العلم تجعل أبناء الكرة الأرضية يستفيدون من تجارب بعضهم البعض.. ولا يتوقفون كثيرا عند المكتشف الأول لتلك المعلومة أو بلده أو دينه، فالمكتشفات عند الشعوب تبقى في مكانها فترة بسيطة ثم تضاف للتراث الإنساني ..

لكن يبقى هناك أساس يميز حضارة عن حضارة وشعب عن شعب، وسيبدو الشعب الواحد بنظر من هم خارجه وكأن أفراده عبارة عن نسخة واحدة مضروبة بعدد أبناء الشعب نفسه، وهذا ما ينظر إليه عندما نتحدث عن الشعب المصري أو اللبناني أو العراقي، فيما بيننا كعرب، وقد يختار أبناء مصر مدينة أو إقليم ليتندروا بالحديث عن أبناء ذلك الإقليم وكأنهم فرد واحد، ويفعل كذلك السوريون والعراقيون وغيرهم، وبالمقابل فإن من هم خارج العرب سينظرون للعرب وكأنهم نسخة واحدة لشخص ارتسمت صورته في أذهانهم ..


هذا ما تناوله صموئيل هانتنغتون في كتابه (صدام الحضارات)*6 عندما حاول وضع خطوط فاصلة بين الحضارات فبعد أن تسلسل في سمات سكان سردينيا و طرائقهم الحياتية واختلافها عن سكان نابولي و فينيسيا، وصل الى أن هناك شخصية إيطالية لها سماتها التي تميزها عن الألمانية والهولندية والإنجليزية، لكنها تلتقي كلها في سمات الشخصية الحضارية الأوروبية ..

لقد عالج الجابري تلك المسألة بإرجاعها ل (النظم المعرفية)، وكنا قد ذكرناها في الحلقات الأولى من هذا الملف، لكن باقتضاب وسنعود إليها ببعض التفصيل لاحقا ..

في إحدى السنوات حاولت جمع بعض بذور (النفل) وهو نبات رعوي معروف يتبع للعائلة البقولية، تستسيغه كل الحيوانات التي يقتنيها الإنسان، ويزيد إنتاجها وتتحسن أحوالها إذا تغذت عليه. وعندما تنطلق الحيوانات في المرعى فإنها تقبل على نبات (النفل) حتى تقضي عليه كله، ثم تنتقل بعد ذلك الى ما دونه من الأصناف الأقل جودة واستساغة منه. فاجتهدت في محاولة تكثير ذلك النبات بجمع قسم من بذوره الناضجة، وخصصت لها مكانا محددا من الأرض وبذرتها ورعيت بذورها بالاهتمام بسقيها وتعشيبها، وفق الأسس المعروفة في زراعة المحاصيل الحقلية. لكن لم ينبت من البذور ولا بذرة واحدة، لا في السنة الأولى ولا في السنة الثانية ولا بعدها .. وعندما بحثت في ذلك وجدت أن هناك العديد من أصناف النباتات الرعوية يمتلك خصائص تجعلها تمتنع فيها عن الإنبات بانتظام .. وتعاود الإنبات في ظروف لا دخل للإنسان فيها ..

هذه الحالة، من يتمعن في الجنس البشري، سيجدها ماثلة في سلوكه ومظاهر (عقلنته) وذروة نشاط عقله. فنحن لا نستطيع التعرف على عقل شعب إلا من خلال ما ينتجه هذا الشعب من عطاء حضاري، بأشكاله المختلفة، وقد تعبر عن هذا العقل الدولة، أو النخب المسموح لها بالتعبير من خلال قوانين وظروف الدولة نفسها .. وقد تكون عينة الدولة في كثير من الأزمان لا تعبر عن الحالة الحضارية لما يكمن في مخزون الشعب، وقد تمر فترات طويلة لا يتم التعرف بها على الإمكانيات الحضارية لهذا الشعب .. وقد رأينا أمثلة كثيرة، فاليهود يسبتون قرونا طويلة، وما أن تتاح لهم الفرصة حتى يعاودوا نشاطهم العقلي الذي يتطابق مع سالف عهدهم، وكذلك أهل الهند والأتراك وغيرهم ..

وهذا ما يؤكد أهمية مناقشة النظم المعرفية التي تحرس نمطية الجهد العقلي لأي شعب، وهو ما سنناقشه ببعض التفصيل لاحقا..

هوامش
ــــ
*1ـ سلسلة من المؤلفات نشر معظمها من خلال مركز دراسات الوحدة العربية
*2ـ هل هناك عقل عربي/قراءة نقدية لمشروع محمد عابد الجابري/ هشام غصيب/المؤسسة العربية للدراسات والنشر/بيروت/ ط1/1993
*3ـ ثقافتنا في ضوء التاريخ/عبد الله العروي/المركز الثقافي العربي/ الدار البيضاء/المغرب/ط1/1983
*4ـ إصلاح العقل في الفلسفة العربية/أبو يعرب المرزوقي/ مركز دراسات الوحدة العربية/ط1/1994
*5ـ مصطلح قامت بنحته (كروبسكايا) زوجة لينين/ قرأته في كتيب سوفييتي مترجم للعربية، تحت عنوان (تكنيك القراءة والمطالعة) نسيت دار النشر وسنتها .. ولم أعد أملكه الآن..
*6ـ صدام الحضارات/ إصدار خاص قام به مركز الدراسات الاستراتيجية والبحوث والتوثيق/بيروت ط1/1995
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس