عرض مشاركة مفردة
غير مقروءة 21-02-2010, 09:06 AM   #48
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

الحرب العالمية الأولى

(في ذكرى اندلاعها: 9 ربيع الأول 1327هـ)

تولى السلطان عبد الحميد الثاني عرش دولة الخلافة العثمانية سنة (1293هـ=1876م) في ظروف بالغة الصعوبة شديدة القسوة تموج بالفتن والمؤامرات، لا تكاد تخرج الدولة من أزمة حتى تدخل فيما هو أشد منها، ولا تتخلص من حرب حتى يفرض عليها أعداؤها حربا أخرى، ولا تنجو من بنود معاهدة مجحفة حتى تُجرّ إلى معاهدة أشد إجحافا.

وتكالب على جسد الدولة المنهك الدول الكبرى الأوربية يقتطعون منه أجزاء غالية، ويمنون أنفسهم بالمزيد؛ فكان من أعز أماني روسيا أن تستولي على إستنبول حاضرة دولة الخلافة، وتضع يدها على مضيقي البوسفور والدردنيل لتخرج سفنها من البحر الأسود إلى المياه الدافئة وفي البحر المتوسط وتعود دون قيد أو شرط.. واحتلت بريطانيا وفرنسا وإيطاليا أقطارا عربية.

ولولا أصالة الدولة وعراقتها لأصبحت كلأ مباحا لدول أوربا، أو غدت هباء منبثًا في القرن الثامن عشر أو التاسع عشر، لكنها ظلت تقاوم عوادي الزمن وحقد أوربا الصليبي أكثر من قرنين من الزمان، حتى آلت الخلافة إلى عبد الحميد الثاني والدولة تعاني من الوهن والإعياء اللذين لم يكن لعبد الحميد بطبيعة الحال يد فيهما.. وكان عليه أن يستنفر كل ما في دولته من مكامن القوة وأسباب الحياة والرغبة في البقاء ما يمكنه من دفع غوائل أوربا، وقيادة دولته بحكمة حتى تشفى وتبرأ من أدوائها، أو ينفخ في روحها أسباب التعلق بالحياة؛ فتنهض من رقدتها وتعود إلى سابق عهدها.

ولاية عبد الحميد الثاني

تولى السلطان عبد الحميد الثاني الخلافة في (10 من شعبان عام 1293هـ= 31 من أغسطس 1876م) وبدأ في قيادة الدولة التي تحيط بها المشكلات من كل جانب، فالديون المتراكمة على الدولة بلغت 252 مليون ليرة ذهبية، وكان هذا مبلغا هائلا وقتها. وروسيا القيصرية تتربص بدولته الدوائر؛ فأعلنت الحرب عليها وألحقت بها هزيمة هائلة عُدّت من نكبات التاريخ العثماني. والبوسنة والهرسك تموج بها ثورة هائلة تبغي الانفصال عن الدولة، أو على الأقل تُحكم حكما ذاتيا مسيحيا. والصرب والجبل الأسود تحاربان الدولة مؤازرة للثائرين بتحريض من روسيا التي لم تكن أصابعها بعيدة عن إثارة الفتنة وإمداد أعداء الدولة بالسلاح. وإنجلترا تطلب من سفيرها في إستنبول مقابلة السلطان عبد الحميد وتوجيه اللوم إلى الدولة العثمانية واتهامها بإقرار الظلم في بلغاريا، وتعريض المسيحيين بها للذبح، ومطالبتها باسم الملكة فيكتوريا تعويض ثوار بلغاريا، وبناء كنائسهم على نفقة الدولة العثمانية، وتقديم العون لهم عاجلا، وتوقيع عقوبات رادعة على المسئولين العثمانيين ببلغاريا.

ومضى السلطان يواجه بعد ذلك أخطارا جساما وحروبا متلاحقة تشنها أوربا والشعوب المسيحية التي بقيت خاضعة للدولة.

وآزرت هذه الأخطار الخارجية، معارضةٌ داخلية نشطة ومنظمة، في صورة جمعيات سرية وعلنية وعسكرية ومدنية، واتخذت لنفسها برامج سياسية ظاهرها المطالبة بإعادة الدستور، وباطنها الإطاحة بحكم السلطان عبد الحميد.

وعلى الرغم من ذلك فإن السلطان عبد الحميد لم ينشغل بتلك الأخطار عن القيام بتنفيذ برامج إصلاحية شملت مناحي الحياة للنهوض بالدولة من عثرتها؛ فتوسع في نشر التعليم بشتى مراحله، وأنشأ جامعة إستنبول والمدارس العليا ودور المعلمين، وعني بالتعليم العسكري وإنشاء المدارس الحربية، وعمل على إصلاح القضاء بإصدار قوانين تنظم شئونه، وتوسع في مد السكك الحديدية في ولايات الدولة، ووسائل المواصلات الأخرى، واحتضن فكرة الجامعة الإسلامية؛ باعتبارها سياجا يحمي الدولة من أخطار الدول الأوربية.

الاتحاد والترقي

تعرّض السلطان عبد الحميد لهجمة شرسة من قبل خصومه وأعدائه، فألصقوا به كل التهم، التي تشوّه صورته في العالم العربي والإسلامي، ونسبوا إليه كل نقيصة، ولم يتركوا عملا من أعماله إلا وعابوه، وأساءوا تفسيره ولو كان عملا إصلاحيا ظاهرا للعيان، ولم يكن ذلك إلا بسبب رفضه إعطاء اليهود أي جزء من فلسطين، ودعوته إلى إحياء الخلافة وتقويتها وتبنّيه للجامعة الإسلامية، ووقوفه أمام أطماع أوربا.

وكان وراء هذه الحملات المنظمة، الدعاية الصهيونية، والجمعيات العلنية والسرية التي كانت تناهض حكم السلطان عبد الحميد، وتعمل على تقويض حكمه، وتباشر نشاطها من داخل الدولة في أماكن بعيده عن العاصمة، وأحيانا من خارجها في بعض الدول الأوربية، ويقف على رأس تلك الجمعيات المناهضة للسلطان، جمعية الاتحاد والترقي، وهي منظمة سرية ظهرت سنة 1308هـ= 1890م، واستقر بها المطاف في مدينة سالونيك، وضمت أخلاطا شتى من عناصر من جنسيات مختلفة وديانات متعددة، وكان أكثر أعضائها من الأتراك العثمانيين، يليهم اليهود ثم بعض العرب، ومعظم هؤلاء من الضباط العسكريين، ويستهدفون القضاء على حكم السلطان عبد الحميد.

وكانت هذه الجمعية تمارس نشاطها من ثلاث ولايات عثمانية -تكوّن ما يعرف بـ"مقدونيا"- هي: موناستير وقوصوه وسلانيك؛ حيث كان المناخ ملائما، لعملها حيث كانت تخضع لنظام الرقابة الدولية على الشئون المالية وأجهزة الأمن، وتركز نشاطها في الدعوة إلى إصلاح الأحوال العامة في الدولة العثمانية، وإنهاء حكم عبد الحميد الثاني وإعادة الدستور.

وكان هؤلاء الاتحاديون يظنون أنهم بإزالة حكم عبد الحميد يمكنهم التقريب بين عناصر الدولة المختلفة، وتخفيف مضايقات أوربا التي تبغض السلطان عبد الحميد، وأن إعادة الدستور ستعجّل بتحسين العلاقات بين الدولة العثمانية وأوربا.

نجحت الجمعية في حمل السلطان عبد الحميد على إعلان الدستور في 23 من جمادى الأولى 1326هـ = 23 من يوليو 1908م، وأجريت الانتخابات العامة، وتولت الجمعية الحكم –وقد سبق أن أصدر السلطان عبد الحميد الدستور للمرة الأولى في مستهل عهده، ثم لم يلبث أن عطّل العلم به- واستأثرت الجمعية بالنفوذ، وأصبح السلطان عبد الحميد لا حول له ولا قوة.

فلتعش الشريعة المحمدية

ولم يكد يمر تسعة أشهر على صدور الدستور حتى اندلعت ثورة عارمة ومظاهرة كبيرة في العاصمة في 9 من ربيع الأولى 1327هـ = 31 من مارس 1908م تطالب بإلغاء الدستور، وإعلان الشريعة المحمدية، وإسقاط حكومة الاتحاد والترقي، وفض المجلس النيابي.

وقد ضمت هذه المظاهرة التي اشتهرت في التاريخ العثماني بـ"حادث 31 مارس" عناصر من رجال الدين وأئمة المساجد وبعض المتصوفة، وكذلك عناصر عسكرية من جنود الحامية العسكرية المرابطة في إستنبول، وقد وقع هؤلاء الجنود تحت تأثير العناصر الأولى الذين زعموا أن الدستور يخالف الشريعة الإسلامية، وأن الخليفة أصدره مضطرا.

وبلغ الحماس بالمتظاهرين إلى حد أن حاصروا مجلس "المبعوثان" (المجلس النيابي) ومبنى الباب العالي، وقتلوا طائفة من الضباط والجنود، وأطلقوا الأعيرة النارية في شوارع العاصمة، وكانوا يصيحون بأعلى صوتهم: "باشا سون شريعة محمدية" أي فلتعش الشريعة المحمدية، وفي الوقت نفسه أرسلوا وفدا إلى السلطان يطالبونه بتنفيذ رغباتهم، فلقيت مطالبهم استجابة منه، وأمر بتأليف وزارة جديدة لتنفيذ هذه المطالب.

اتهمت حكومة الاتحاد والترقي السلطان بتدبير هذه المظاهرة العارمة، واتخذوا من ذلك ذريعة للتحرك وتحقيق أمانيهم القديمة بخلع السطلان عبد الحميد؛ فتحركت سريعا واحتل جيشها العاصمة، واجتمع مجلس "المبعوثان" مع أعضاء الأعيان، وقرروا خلع السلطان عبد الحميد، وتعيين أخيه "محمد رشاد" سلطانا للدولة باسم محمد الخامس، وكان رجلا مسنًّا في الرابعة والستين من عمره لا يملك من أمره شيئا، وذلك في 6 من ربيع الآخر 1327هـ= 27 من إبريل 1909م.

وندب "المجلسان" وفدا لإبلاغ السلطان بقرار العزل، تكوّن من أربعة أشخاص من بينهم يهودي يسمى "قرصو أفندي" كان يكنّ شديد العداوة للسلطان المخلوع لأنه طرده من قصره حين حاول التأثير عليه لقبول تهجير اليهود إلى فلسطين، فوجد في هذه المناسبة فرصة للتشفي والانتقام؛ ولهذا لم يكن غريبا أن تسهم الحركة الصهيونية بكل أجهزتها الإعلامية والسياسية في حملات التشهير بالسلطان عبد الحميد، الذي كان حَجَر عثرة أمام أهدافهم ومؤامرتهم لتهويد فلسطين.

ومن العجيب أن الذين خلعوا السلطان عبد الحميد تحت دعوى أنه حاكم مستبد كانوا أشد طغيانا واستبدادا وهم يحكمون باسم الدستور، فضلا عن حماقاتهم وجهلهم بأصول الحكم؛ الأمر الذي عجّل بسقوط الدولة.
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس