عرض مشاركة مفردة
غير مقروءة 27-07-2008, 10:35 AM   #17
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

الفصل الثاني عشر: أصل الشغف بالآخر لدى حركات الأنتلجنسيا الطلائعية في أوروبا..

قدمه: جوزي أنطونيو غونزاليس آلكنتود.. مدير مركز البحوث الإثنولوجية في جامعة غرناطة ـ إسبانيا ..

عندما ندرس التيارات التاريخية والفنية والأدبية بأجيالها المتعاقبة في أوروبا نعاين أنها عاشت ضربا من الزهد الفكري باعتباره تحررا من الموانع القسرية التي يقيمها المجتمع البرجوازي، لتنخرط في عالمها الاجتماعي. وقد جاء التحرر من تلك القيود والموانع على ثلاث دفعات: التحرر الأول الذي تعزى نشأته الى التحليل النفسي (الفرويدي) على أيدي السرياليين*1 ومن بينهم (دالي). والتحرر الثاني انخرطت فيه معظم التيارات ومن بينها النزعات الدادائية*2 والتحرر الثالث: هو التحرر من الشكل، وقد انتشر هذا اللون من التحرر عند أنصار التجريد الهندسي المتمثل بأنماط الأبنية الحديثة وما صار يدخل في عالم تصنيع السيارات والأجهزة وحتى الملابس.

من هنا وصف (إريخ كاهلر) ذلك بقوله: (لم يعد اللاوعي مجرد موضوع تتقصاه أفعال الوعي الاستكشافية، وإنما هو مستحوذ على العمل الفني وصار مشرعا للإبداع الفني)

(1)

أحست الطلائع الثقافية الأوروبية بعدم الاطمئنان لواقع الحضارة الغربية، فانبثقت لديها الحاجة لوجود (آخر) ذو نزعة بدائية، ليكون النشاط ضد هذا (الآخر) مصدرا لإلهام جميع الحركات، فكانت حالات الشغف بالاستشراق للتعرف على الوجه المتوحش والبربري للشرقي. فكانت تظهر أبحاث أوروبية مطولة تتحدث عن زيف الأقنعة التي تصنعها القبائل الإفريقية، ودخلت خطوط الأقنعة في لوحات الفنانين الغربيين كما دخلت ولا تزال في تصور أشكال أبطال الأفلام الخيالية والرسوم المتحركة.

(2)

لقد أشار (هيالسنبيك) أحد الدادائيين، الى أهلية من يريد أن يتكلم عن غيره من الشعوب الى أن يكون ذو (دربة) والدربة هنا هي المران [ أو الخطيطة بلغة ريف حوران، حيث تكون آثار الأقدام واضحة على أرض غير معبدة أو مزفلتة، فتكون الآثار هي الدليل للآخرين أن يمشوا على أثر من قبلهم في الخطيطة].

ويبالغ أحدهم(أنطون آرتو) في وصف إمكانياته بقوله: (بعد انتظار، مكثت على حالي، فلم أرجع بعد الى نفسي) يشير هنا الى كيفية عيش حياة من نذر نفسه لدراستهم.

لقد رأينا آثار تلك الأعمال الفكرية، في الأفلام السينمائية التي انتشرت في القرن العشرين، فلم يأل كاتب القصة أو المخرج أو مجهز العمل السينمائي بالأزياء والأدوات والمساكن الخ، في تصوير الآخر أينما كان بالطريقة التي انطلقت في مراحل التحرر التي ذكرناها، سواء تكلموا عن الهنود الحمر (في أفلام الكاوبوي) أو تكلموا عن بلاد الغرائب، كما أنهم لم يوفروا جهدهم في تصوير الديانات التي لا يكنون لها احتراما، وقد ساهمت تلك الأعمال الفنية والإعلامية في تأسيس خطوط الرسم الحضاري التي تكلم عنها (صاموئيل هانتنغتون).

مع اندثار الحركات الطلائعية ذات الوجود الصوري وزوال اهتمامها بالآخر، صارت مسألة (الآخر) تنطرح في حقلي الفلسفة والسياسة).

وبعد سنين طويلة جاءت مرحلة تصفية الاستعمار، أنكر بعض الكتاب الغربيين على الغرب نزعته المركزية الشاملة فقال (فانون) : (لم تعد التهمة موجهة فقط الى أصحاب البنوك، والى أصحاب الشركات المتعددة الجنسية، بل الى المبشرين ورجال التعليم والكتَاب الغربيين والسياح أيضا).

(3)

إن الشغف بالآخر مثله مثل الشغف بالذات يطرح نفسه في الدوائر المثقفة وهو خال من البراهين الكلية. فالشغف بالآخر كان بالبداية خياليا وموهوما، كما كان مقصورا على حقل الاستشراق. لقد تحول الحب الذي يكنه الغربيون للشرق الى إيهام خيالي بوجود جنات شرقية ذات مصداقية جغرافية وتاريخية، وبالتالي فإن الشغف بالشرقي هو أولا وقبل كل شيء صفة من صفات النخبة.

(4)

النتيجة من الصور السابقة، هو أن تحول الخطاب الغربي الى نهج مليء بأخطاء تدخلت في شكل السلوك السياسي. وفي الحقيقة أن الصور المتكونة ـ حتى عند النخب ـ ما هي إلا هراء لا قيمة عملية له. وهذا قاد وسيقود الى أن يتوارى هذا الخطاب تحت التراب وانحلال الخطاب نفسه وتفككه. لأن ذلك كما أسلفنا هو نتاج النخب الحالمة.

انتهى القسم الأول


هوامش
*1ـ السريالية "أي ما فوق الواقعية أو ما بعد الواقع" هي مذهب أدبي فني فكري، أراد أن يتحلل من واقع الحياة الواعية، وزعم أن فوق هذا الواقع أو بعده واقع آخر أقوى فاعلية وأعظم اتساعاً، وهو واقع اللاوعي أو اللاشعور، وهو واقع مكبوت في داخل النفس البشرية، ويجب تحرير هذا الواقع وإطلاق ما مكبوت فيه وتسجيله في الأدب والفن.

*2ـ الدادائية: حركة فكرية فنية انبثقت في سويسرا عام 1916 لمعاداة الحرب العالمية الأولى والحروب بشكل عام، ولم يعرف أحد أصل اشتقاق الكلمة، إلا أنها كما يبدو من نشاط القائمين على تلك الحركة شبيهة بلفظ (دادا) عند بعض المناطق العربية التي تقال للطفل، فهي تعبر عند أصحاب الحركة لطلب الأمان والسلام والابتعاد عن الحروب.
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس