عرض مشاركة مفردة
غير مقروءة 11-11-2009, 07:26 PM   #508
المشرقي الإسلامي
أحمد محمد راشد
 
الصورة الرمزية لـ المشرقي الإسلامي
 
تاريخ التّسجيل: Nov 2003
الإقامة: مصر
المشاركات: 3,832
إفتراضي

كعادته الألم يُعتّق فيصير شجنًا لا يؤلم بقدر ما هو يفلسف كما قالت ميسون صقر . إن المبدع الحقيقي هو الذي يجعل من سلاحه أداة لحماية المثل العليا والقِيَم التي يؤمن بها ، وهو بإيمانه
بهذه القيم الراسخة العظيمة ، فإنه في الجهة المقابلة يتزود بما يمكن له التزود به من عدة حقيقية تسمى الفن والإبداع ، إذ تصطف جميع مكونات هذا السلاح العاصف على الرغم من تقييده المستمر في مواجهة هذه الموجة من الظلم والطغيان التي لا يستطيع ردها إلا بالقلم .ومن هنا تكمن عظمة هذا السلاح .
وفي فن الخاطرة يصبح الوطن مادة خصبة لكل الأبناء البررة به المخلصين له الذين لا يعنيهم أن يسمعوا أبواق الغناء \ الغباء (الوطني) بقدر ما يعنيهم أن تُسمع صرخته وعجبي للوطن ! تُسمع أغانيه ولا تسمع صرخاته فهل كان ذا حنجرتين ؟!!
من هنا نبدأ في الحديث عن هذه الخاطرة العبقرية لأستاذتنا العزيزة آمال المكناسي ..

بين ثنايا الزمن المتعب أبحث عن معطف يقيني برد الأيام ...
أبحث عني فوق الأرض لا أجد ظلي...
أبحث بين الجثث لا أجد جثماني
..

للبداية دورها الواضح في إشعار المتلقي بهذا القدر من الألم إذ تدخل المبدعة مباشرة في الموضوع دون تمهيد ، وتتوالى الصور المؤسفة الحزينة المعبرة عن واقع هذا الوطن ، فالزمن هو ذلك الإنسان المتعب .وكلنا نعلم أن الغالب على الأشخاص استخدام الزمن في محل الإدانة كأنه هو الفاعل لكن مجيئه على هذه الشاكلة جاء ليعبر عن هذا الوطن الذي كسر حدود الظلم بكل أشكاله حتى أنهك الأيام أنفسها!!
وكانت العبارة تحتوي على تجسيدات مثل (الوطن المتعب) ومعطف يقني برد الأيام، وهذا يساعد على تقوية الفكرة وتعميق دلالتها ، وكان المعطف الواقي برد الأيام تعبيرًا عاديًا رغم ابتكاريته الظاهرة لأنه مكرر كثيرًا في الكتابات الأدبية المختلفة .
وكان هذا التعبيران على درجة عالية من العبقرية :
أبحث عني فوق الأرض لا أجد ظلي...
أبحث بين الجثث لا أجد جثماني

إذ أن هذين التعبيرين عن مدى الاستلاب الذي يتفنن الوطن في إصابة أبنائه به قد جعله منتهكًا حتى الظل لا يجده ، وحتى الجثث لا تجد المبدعة أو من تتحدث المبدعة على لسانها بينهم ، فكأن المكان الاعتيادي للإنسان هو ذلك التواجد بين الجثث وفي ذلك وجه من وجوه الجمال إذ تعطي التعبيرات دلالة على القواعد الحاكمة لحياة وأفكار الأفراد في هذا الوطن.
وتعبير أبحث عني عبر عن الشرخ الذي أحدثه الوطن (القائمون على أمور الوطن)بين الإنسان وذاته ، وفيه تتضاءل القيم حتى تصبح الذات كأنها شيء مادي يُبحث عنه.
فأرى نزيف روح يشير لي من بعيد أن ابتهالات الموت تستقطبني ...
و دماء العمر الغابر تقبل شفاه أرض لم تعد تعنيها القبل بقدر اشتهائها اللون الأحمر ...

إتيان كلمة روح نكرة يدل على أن أي روح وربما كل روح مهيأة لمثل هذه المعاناة وتعبير نزف روح يعبر عن هذا الاحتراق الذي يصيب الإنسان والألم النفسي عندما تغدو روحه كالجسد النازف ، وتأتي لفظة ابتهالات الموت تستقطبني لتعبر عن هذا التلاشي في قيمة الإنسان ، وكان تجسيد الموت بأغنية أو نشيد والإنسان بشيء من أمواج الأثير فيه تكامل في البيئة التشبيهية وهذا ضروري حتى يعي المتلقي أن المبدع في مثل هذه اللحظات تنزل منه هذه المشاعر نزول الحقيقة المسلّمة في قانون الطبيعة وهذا يدل على قدرة المبدع على تلقي هذا الحشد من الأفكار والالتحام بها حتى تصير له حقيقة لا تقبل النقاش. وفي مثل هذه الأوضاع تغدو الدماء إنسانًا والأرض كذلك وتصبح الدماء كالإنسان النازف بل يقبل شفاهًا ، هذه الشفاه هي الوطن لكن الأجمل في هذا التناقض الأليم إذ أن العمر المنقضي يقبل الوطن بينما الوطن هو تلك الشفاه التي لم يجد فيها الحب ولا يعنيها إلا أن يكون اللون الأحمر غذاءها . الجملة عبرت عن الغدر غدر الوطن بشكل عبقري وبأسلوب تشكيلي يغدو فيه الوطن شفة كبرى على شكل خريطة وتلوك إنسانًا نحيفًا هازلاً . وفكرة توأمة الفنون أو أخوة الفنون إذا صدق التعبير تجعل من هذه التعبرات مادة عظيمة لفنون أخرى كالرسم وغيره ..
وبعد هذه الأوصاف الصاعقة لا تجد المبدعة إلا أن تقول الكلمة صراحة لتعبر بها عن ضمير الألوف المؤلفة من المنكوبين بهذا الحب :
وطن يبيح الموت و يأبى الرحيل ..
إذ أن هذا الوطن هو ذلك المخلوق الذي يقوم بتنفيذ ما يبيحه ويعطي فيه دروسًا عملية ، هو ذلك الإنسان الذي أجرم ولما يرحل . وهذا التعبير المباشر يأتي بعد سلسلة من الصور تقصد منها مبدعتنا العزيزة أن تقول بملء فمها : ليس ثمة ما يمكن إخفاءه ليكون الوطن هو ذلك الملهم للأحزان لتتشكل في لغة الخطاب بالصورة مرة وبالكلمة المباشرة مرة أخرى ( وما أكثر مواهبه!)
فأين وطني ...أرضي .. بيتي ...غرفتي ...زاويتي ...منفاي؟!!
ان لم يكن لي جسد و روح متحابان

ولعل هذا الصوت العنيف يزداد إيقاعه من خلال النقاط (...) التي تعبر عن سرعة في الإيقاع ، وتبدو المبدعة أو من تتحدث على لسانها مُلجمة من ذلك متلجلجة إذ أن كل شيء منها يضيع الوطن ، الأرض ، البيت ،الغرفة ، الزاوية ،المنفى .. إن عبقرية المبدعة هي أنها صورت تناقص قيمة الوطن في كل تفصيلة ومدى تضاؤله حتى يصبح زاوية . ولعل القارئ يدرك سبب ذلك كله ، بالدرجة التي لا تحتاج المبدعة معها إلى الشرح . وتلعب بعد ذلك من خلال السؤال الاستنكاري على وتر المنطق إذ يكون الجسد والروح غير متحابين ولعلنا نلمح -بشكل غير مباشر- تهكمًا مختبئًا بين الأسطر يقول بلسان الحال : لست أعرف من هو الجسد ومن هو الروح !
أب و عم متحدان !!!.....عقل و قلب منصفان!! .
ويحي على قبر نزفت رجلاه من شدة التعب!! .

وتأتي لفظة أب وعم زائدة ، قد جرتها إليها القافية جرًا وهذا يؤخذ على هذا النص ولكن ما ذنب المبدعة العزيزة إذ قادها الوطن بجرائره اللامحدود إلى خطأ كهذا !
وتأتي النهاية صارخة بعمق الألم إذ يصير الوطن قبرًا ، وهذه التسمية قبرًا تعكس ما يمكن أن يسمى بقانون المآلات . يصبح الوطن في نظر الكاتبة كأنه قبر حقيقي ،بل وإمعانًا في البرهنة على هذا الوصف يصير نازف القدمين من شدة التعب. هذا التعبير
الذي يتخذ صورة تشكيلية مرة أخرى أشد بؤسًا إذ أن القبر لم يكتف بما يحمل ،بل صار نازف القدمين ، ينتظر وقت السقوط .
إن هذه المفردات المستخدمة في النص وأنسنة غير البشري والتحدث على لسان غير الإنسان كأنه إنسان (تبادل المواقع) هي عملية واعية تأتي لتخدم الحالة الشعورية وتوضح إلى أية مدى تنعكس القيم والتعبيرات على إبداعات الأفراد .
كانت النهاية قوية بدرجة تفوق درجة البداية وقد كان السرد متزنًا والانتقالات من مشاهد لأخرى سلسة دونما فجوات أو تناقضات تصويرية. عمل رائع متقن أحييك عليه أختنا العزيزة وأرجو لك التوفيق سملت أناملك دمت مبدعة .
__________________
هذا هو رأيي الشخصي المتواضع وسبحان من تفرد بالكمال

***
تهانينا للأحرار أحفاد المختار




المشرقي الإسلامي غير متصل   الرد مع إقتباس