عرض مشاركة مفردة
غير مقروءة 22-02-2006, 10:38 AM   #19
محمد العاني
شاعر متقاعد
 
تاريخ التّسجيل: Sep 2002
الإقامة: إحدى أراضي الإسلام المحتلة
المشاركات: 1,538
إفتراضي أول ليالي المطار

أتَعْلَمُ أمْ أنتَ لا تَعْلَمُ . . . بأنَّ جِراحَ الضحايا فمُ
فَمٌّ ليس كالمَدعي قولةً . . . وليس كآخَرَ يَسترحِم
يصيحُ على المُدْقِعينَ الجياع . . . أريقوا دماءكُمُ تُطعَموا
ويهْتِفُ بالنَّفَر المُهطِعين . . . أهينِوا لِئامكمُ تُكْرمَوا


الخميس 3-4-2003 يومٌ لن أنساهُ ما حييت. كنت جالساً في حديقة المنزل أستمتع بالهواء الطلق و أصوات القصف المتواصل منذ الصباح. و فجاْةً تحول صوت القصف إلى صوت إطلاقاتٍ نارية من أسلحةٍ رشاشة..!!!!
هل تعلمون ماذا يعني ذلك؟؟ يعني أننا صرنا في ساحة المعركة. خرجتُ من البيت إلى الشارع الرئيسي و رأيتُ منظراً لن أنساه ما حييت..
رجالٌ و نساءٌ يركضون بملابس البيت يحملون أطفالهم و يركضون في الشارع الرئيسي المؤدي إلى "أبو غريب" مبتعدين عن "أبو غريب". كانوا يركضون حفاةً و يصرخون "لقد أتو..لقد أتو". كان هنالك بعض الجنود هم من حزب البعث و كانوا يرتدون البدلات العسكرية يركضون هاربين أيضاً يخلعون الملابس العسكرية في الشارع و يرمون أسلحتهم ورائهم في الخنادق..!!!
و المشهد الأكثر بشاعةً كان سيّارتان نوع "بيك أب" تحمل جثثاً لجنودٍ من الحرس الخاص الذين نمّيزهم من المثلث الأحمر على أكتاف بدلاتهم..كانت السيارتان ملئى بالجثث و متوقفتان أمام شارع بيتنا. كانت هاتان السيارتان متوقفتين بانتظار سيارات الإسعاف التي كانت تأتي ليرموا فيها عدداً من الجثث و تذهب..
كان المنظر بشعاً لدرجةٍ منعتني من التفكير..ظللت واقفاً في الشارع لا أعلم ما أفعل..
هل أذهب لأساعدهم؟؟ هل أعود للبيت و أخبر أهلي؟؟ هل أهرب مع الهاربين؟؟
لن أنسى وجوه الناس و الأطفال وهم يبكون كأنّ جهنّم تركض ورائهم..
بعد عدّة ثوانٍ بدت كأنها الدهر كله عدت إلى البيت راكضاً و أخبرت أبي بما رأيت و تجمّد الدم في عروقي و بدأت بفقدان أعصابي لشدّة خوفي على والدتي حبيبة (حفظها الله لنا) و أخي الصغير. توسّلتُ بأبي أن نرحل عن بغداد..ولا أعلم إلى أين ولكن المهم أن نرحل..لكن أبي رفض أن يرحل هو و قال "إن شتم إرحلوا أنتم". و حتى إن قررنا الرحيل فالطريق إلى الجهة الغربية أي محافظة الأنبار هو نفس الطريق الذي حدث فيه الإنزال قبل قليل..!!!
المعركة لا تزال متواصلةً في الخارج و لم نزل لا نعلم ما نفعل في الداخل. أخيراً قررنا البقاء في البيت و ما يحدث فليحدثْ فإننا لن نُغيّر ما كتب الله. إستمرت القتال الليل كلّه و لم يتوقف حتى ساعات الصباح الأولى من يوم الجمعة.
إتصلنا بخالي الذي يسكن في نهاية شارعنا في منتصف الليل و لم نجد أحداً..كان خالي قد أخذ زوجته و طفلتيه إذ كانت إحداهما رضيعةً و حاول الخروج من بغداد ولكنه لم يستطع.
لم تزل أصوات المدافع الرشاشة في دبابات البردالي ترنّ في رأسي و كنت أتخيل أن مع كل ضربةٍ تضربها شخصٌ يموت..!!!
عند فجر يوم الجمعة أصبت بالإرهاق الشديد و نمت لفترةٍ قليلةٍ و صحوت صارخاً من كابوسٍ كان يُلازمني طول فترة الحرب و هو أن صاروخاً سيضرب بيتنا و سأكون أنا الناجي الوحيد. كان كابوساً مرعباً حقاً. فلم يكُن لدي مانعٌ من الموت..و لكن أن أكون الناجي الوحيد..كان هذا كابوساً فعلاً.
ساد بعض الهدوء صباح يوم الجمعة بعد ليلةٍ عاصفةٍ بالقنابل و الطلقات. خرجتُ مع أخي الصغير إلى بيت أحد أقاربنا في آخر الشارع لنرى إن كانوا لا يزالون أحياءاً أم لا لأنهم لم يُجيبوا الهاتف.
كانت الخنادق الملئى بالحزبيين فارغةً...!!!
أين ذهب المقاتلون؟؟
رأيت المنظمة الحزبية التي سمّي عليها شارعنا في العامرية فارغةً و بابُها مُقفل. كل البيوت و المحال مُقفلة. لقد جدّ الجدّ و صارت الحرب حقيقةً نراها لا نسمع بها فقط. شاهدتُ قَطَعات الحرس الجمهوري المدرعة و جنود الحرس الجمهوري بين البيوت و في كل الشوارع الفرعية.
كل هذا الذي حدث كان أن القوات الأمريكية قامت بإنزال كبير على مطار بغداد و طريق "أبو غريب" و القوات العراقية لا تزال في مواجهات متواصلة معها. كانت الأحداث تتفاقم بسرعة. و كان التصور السائد أن الأمريكان ليحتلوا بغداد فسوف يمحوها جزءاً جزءاً لأن الجيش العراقي لن يستسلم بسهولة. كانت الطائرات الأمريكية من نوع أيه-10 (A-10) تحوم بين الفينة و الأخرى و تقصف الدروع العراقية لأنها طائرة مضادة للدروع. و أسقطت الدفاعات العراقية بعضاً منها لأنها تطير بارتفاعات منخفضة.
فجأةً بعد عدةِ ساعاتٍ من الهدوء عادت المعركة لتتفجّر بعنفٍ و يُصاحبها صوت المدفعية الثقيلة التي لا تستخدم إلا في ساحة المعركة و عاد صوت مدافع "البيكيتا" الرشاشة إلى قتل العراقيين.
كان أحد أصحابي جندياً في معارك بغداد يصف لي كم كان مدفع البيكيتا عنيفاً بوصفٍ غريب. قال لي:"تخيّل أنك ملئت برميلاً بالحصى الصغير جداً. ثم قلبت البرميل على الأرض. هكذا هي سرعة البيكيتا في أخذ الأرواح". رواها لي بعد أن قُتل كل من كان مشاركاً معه في إحدى معارك بغداد.
عُدتُ إلى البيت أكثر رُعباً مما كنت لأنني أدركتُ بما لا يقبل الشك أن هذه الليلة ستكون حافلة..و ربما تكون الأخيرة..!!!
__________________
متى الحقائب تهوي من أيادينا
وتستدلّ على نور ليالينا؟

متى الوجوه تلاقي مَن يعانقها
ممن تبقّى سليماً من أهالينا؟

متى المصابيح تضحك في شوارعنا
ونحضر العيد عيداً في أراضينا؟

متى يغادر داء الرعب صبيتنا
ومن التناحر ربّ الكون يشفينا؟

متى الوصول فقد ضلت مراكبنا
وقد صدئنا وما بانت مراسينا؟
محمد العاني غير متصل   الرد مع إقتباس