عرض مشاركة مفردة
غير مقروءة 22-04-2007, 11:44 PM   #80
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

الجبرية في العقل الجماعي العربي :

لو دخل غريب الى حي، وتعرض الى عبث مجموعة من المراهقين أو الشباب المتزمتين الذين لا يرحبون بالغريب، فإنه يعود الى عقله الفردي ليقرر شكل سلوكه مع عبث العابثين، فهو قد حسب قوته وخمن عوامل قوة العابثين، فسيكون قراره التساهل ومحاولة التخلص من هؤلاء العابثين بأقل قدر ممكن من الأذى .. تماما كما يفعل حكم مباراة (كرة قدم) في اتخاذ قراراته في أجزاء من الثانية، فالموقف لا يسمح بالعودة لمرجع استشاري سواء كانت هيئة بشرية أو كتب مكتوب فيها ما يعينه على اتخاذ قراره ..

نحن لا نتكلم عن عقلية فردية، بل نتكلم عن عقل جماعي، وطبعا الكلام هنا لن يكون دقيقا في أي حالة من الأحوال، فلن يكن هناك كما أسلفنا سمة خاصة بسكان دولة كاملة أو مدينة كاملة أو حي كامل أو حتى أسرة تبين تطابق سلوك أفرادها وأداء عقولهم بشكل وكأن هذه المجموعات البشرية عبارة عن نسخ مكررة من فرد ومضروب بعدد المجموعة .. لكن نحن نتكلم عن السمات العامة التي تميز شعب أو حضارة بسمة ما، فنقول سلوك اليهود ونصفه على ضوء ما صنعنا من صورة متكررة فيما كتب عنهم وما وصلتنا أخبارهم عبر السنين، ونتغاضى عن أشخاص أو مفكرين أو علماء لا يروقهم سلوك اليهود، وهم من اليهود، تماما، كما نسمي كيس من (الحنطة) باسمه، حتى لو كان فيه من الشوائب ما يصل الى خمسه فيبقى كيس من القمح (هكذا اسمه) ..

في حالات وصف عمل العقل العربي، تكلمنا عن جانب مهم في تكوينه (كأداة) و (كوعاء) في نفس الوقت من خلال تطور وتراكم المفاهيم التي تحدد شكل ردة فعل تلك الأداة والتي تنضح مهاراتها من وعائها في نفس الوقت .. وهذا قد تعرضنا إليه من خلال النظرة السريعة في تأريخ الموروث المعرفي للأمة ..

لو نظرنا من باب المحاكمة الجماعية للعقل العربي من خلال، المقارنة في الأشكال الجماعية الإدارية (طبعا) وكيفية سلوكها وتحكيم العقل في أدائها اليومي، لرأينا أي فريق عمل ضيق تتوزع به الأدوار ليقوم كل عضو من الفريق بتفقيه أداءه و إخضاعه للعقل عنده (كوعاء) من خلال الاستعانة بمعرفته الخاصة (كمستشار) و (منفذ) بالفريق، هو من ينجح في إنجاز مهمته بصورة قاطعة وحاسمة. ففريق طبي يقوم بعملية جراحية يتوزع دوره بين الجراح والفيزيائي والمخدر وغيرهم، ولا تحتمل العملية أي خطأ من أخطاء الفريق. كذلك في فريق (كرة القدم) وفريق التعليم في الكليات الجامعية الخ ..

في الدولة الحديثة، لن يستطيع رأس الدولة أن يدير دولته إلا بتقسيمها، الى قطاعات جغرافية وتعيين حكام محليين و هم بدورهم ينسبون حكاما للمساحات الأصغر، هذا على صعيد السيطرة الجغرافية، وهو شأن معروف منذ القدم.. أما على صعيد التنوع فإن النشاطات ستقسم ويوضع لها مسئولون باسم وزير للمسئول الرأسي أو مدير عام ومدير ورئيس قسم للموظفين الأقل شأنا .. ثم يحيط رأس الدولة نفسه، بمستشارين خاصين يفهم كل منهم الشأن الذي يطلب منه الاستشارة فيه .. وهكذا يفعل الوزراء الخ ..

نعود الى الأمة أو الشعب بنشاطه الحضاري وما يخصه من نشاط عقلي يحدد سلوكه وتصرفه وقبوله لسلوك الدولة أو اعتراضه ورفضه لها .. ما الذي يحرس القيم التي تحافظ على سمات أمة أو شعب، وتجعل تطور معالمه الحضارية تنسجم مع مجمل الصفات التي عرف بها هذا الشعب؟

في السلوك الفردي تتحكم ثلاثة عوامل حاسمة في تحديد شكل السلوك للفرد أينما وجد، الأول: الحصيلة التراثية التي تزود القاعدة الخلقية بضوابط تجعل هذا السلوك مقبول اجتماعيا أو مرفوض، وهي تتمثل بالدين ومفاهيم الشرف والنزاهة وغيرها، ويغذي هذا العامل مجاميع الوعاظ و مناهج التعليم والأدباء والشعراء و الفنانون وغيرهم .. ويكون كل رجل مهم يعمل في تلك المناحي تحت رقابة غيره ممن يهتمون بالمنحى الذي يهتم به و يخضعونه لضوابط معقدة لها علاقة بشكل أو بآخر بالسمات الشخصية العامة للطابع الحضاري، فيهاجمونه إذا أخل بالالتزام بالسمة العامة للمجتمع وسماته التي عرف عنها، ويحيونه بالإشارة الى عمله في كتاباتهم وأحاديثهم الخ ..

والثاني: قوانين الدولة، وهي الرادع للمخالفين والضابط لحركة المجتمع بمختلف نشاطاته الاقتصادية والسياسية والأخلاقية وكل ما يصدر عن الأفراد أو المجموعات، وعندما تتناغم تلك القوانين مع السمات العامة للمجتمع وخصائص الشعب أو الأمة الحضارية، فإن قوة إضافية قد جاءت لتقوي الحراسة، على الصفات العامة للمجتمع وحضارته، وتدعم مسيرته نحو التطور بخطى ثابتة ومتناغمة مع أصالة صفاته.. وبعكسه أي عندما تتساهل القوانين في أداء الأفراد و غض النظر عن أخطائهم، فستكون الفوضى والارتباك و فقدان حماسة العاملين في النشاطات الأدبية المذكورة في تطوير خطاباتهم، كون أن القوانين لا تساعدهم في مهمتهم .. وتكون النتائج أكثر خطورة، عندما تغض القوانين النظر عن أشخاص أو مؤسسات تبشر بنسف المفاهيم التي اعتاد عليها المجتمع وخصوصا تلك الثوابت التي تمس حضارة البلاد بأعمق مواطنها، سواء كانت تلك التي تمس الدين أو الوطن ..

أما المصدر الثالث: فهو الصحبة والجماعة المحيطة بشكل دائم بالفرد، فتلميذ المدرسة أو طالب الجامعة يكون الطلاب هم صحبته اليومية التي يختلط بها، فيتغذى منها و يحاول أن يلتزم بسلوك شخصيتها العام تحت باب (نزعة القطيع) فلا يحاول الشذوذ عنها، حتى لو كان شذوذه هو الأصح .. وهذا يحدث في المجموعات المهنية سواء في التجارة أو الحرفة بكل أشكالها، حيث تتولد عادات وسلوكيات متأثرة بالأجواء الخلقية والقانونية السائدة ..

يتضح لنا أن المناداة بالمُثل والقيم، من قبل بعض الأصوات من كل المناحي، سيواجه صعوبات هائلة في إعادة النموذج العام للشخصية العربية و عمل العقل فيها وفق التدرج الذي صعدنا به في هذا التدريج .. لكن بجميع الحالات قد تسبت القوة المطالبة بالعودة الى النموذج العقلي العام للشخصية العامة للشعب أو الأمة، لكنها لن تموت، بل تبقى تتحين الفرص لعودة انطلاقتها من جديد، وهذه الحالة تتكرر في كل أمة حية ..

وإن كانت الجبرية آتية من سطوة القوى الثلاث في تحديد شكل السلوك وإعمال العقل في نمط لا تقبله الشخصية العامة للمجتمع، فإن تغيير تلك السطوة هو ما يفسح المجال لإطلاق العقل العربي و عودة نشاطه وفق ضوابط شخصيته من جديد ..
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس