عرض مشاركة مفردة
غير مقروءة 15-05-2007, 07:53 PM   #83
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

(26)

تؤثر كمية الغذاء المتوفرة للكائنات الحية على نمطية حياتها وكثرة أعدادها، فحيوانات الصحراء لندرة الغذاء تتصف بقلة أعدادها واكتسابها مهارات تجعل بقاءها وفرص حياتها متوفرة .. فمثلا تحتاج بومة (الحظائر) حتى تفقس ستة مرات في السنة الى ثلاثة آلاف وستمائة جرذ.. فإن لم تلق هذا العدد في بقعة فإنها ستغادره الى مكان آخر.. وهذا الكم من الجرذان حتى يتوفر لتغذية هذا البوم وأفراخه لا بد من توفر الغذاء له .. كذلك نجد تلك الظاهرة في النحل ففي الأحوال التي تكون فيها الأزهار متوفرة، فإن كمية العسل المنتَج ستزيد، وأعداد أفراد الطائفة ستزيد .. إنها مسألة طبيعية بحتة ..

نظام التغذية عند البشر يتوقف هو الآخر على توفر عوامل الإنتاج للغذاء في بقعة يتواجد فيها قاطنون من البشر، فأحيانا تكون المنطقة صناعية، ولا وجود للمزارع القريبة منها، فيضطر أصحاب المشروع الصناعي سواء كانوا من الأهالي أو الدولة الى إحضار الغذاء لهذا التجمع الصناعي، فتنتشر الأسواق التي تعج بالبضائع المنقولة من مسافات بعيدة، ويذهب السكان الصناعيون الى الأسواق ليشتروا ما يحتاجون من مواد، ويدفعوا ثمن مشترياتهم من الأموال التي تقاضوها بدل أتعابهم الصناعية .. هذا في المجتمعات المتقدمة ..

في المجتمعات التي انتقلت من حياتها القديمة، الى حياة مدنية جديدة، يتصارع الناس على الغذاء، ويحاولون التفنن في البقاء، فيرحل الكثير من سكان البوادي والأرياف ليحلوا ضيوفا غير مرغوب فيهم على ضواحي المدن الكبرى، حتى فاق عددهم في الكثير من الأحيان عدد سكان المدن الأصليين، فتهمشوا في سكناهم ودورهم وحياتهم، وأصبحوا بيئة تفرخ الكثير من المصائب غير المحسوب حسابها في سياسات الدول العرجاء .. وهي ظاهرة موجودة بوضوح في معظم مدن البلدان العربية ..

تقاس نسبة الزيادة بالسكان، على ضوء عدد الولادات والناجين من الأطفال دون موت، منقوصا منها نسبة الوفيات، وتخرج إحصائيات عن متوسط أعمار السكان.. وتدخل عندها دراسات السكان، والحالة الصحية، فتحتل الدول المتقدمة مرتبة أولية في قلة نسبة الوفيات في الأطفال، وزيادة متوسط أعمار الأفراد، وقلة عدد المعاقين الخ ..

في العتيقة، حافظ السكان على عددهم الثابت طيلة سبع وعشرين سنة، منذ عام 1927 وحتى عام 1954 .. لا زيادة تذكر. عندما تأتي ضواري الغابات لتلحق بقطيع من الغزلان أو الحيوانات العاشبة (المتغذية على الأعشاب) فإنها تصطاد الصغار من المواليد التي لا تستطيع الهرب، كذلك تصطاد المتأخر والمتخلف من القطعان نتيجة عجزه وعدم لياقته. كان المرض وهو الوحش المستتر ينهش العاجزين عن الركض أمامه نتيجة سوء لياقتهم الآتية من سوء التغذية، كما أن الأطفال حديثي الولادة، ولسوء الحالة لمرضعاتهم، فإنهم يرضعون العجز منذ صغرهم، فيكونون هم الآخرون فريسة سهلة لأي مرض ساري.. فكانت الحصبة مثلا تأكل أبناء خمسة سنوات عن بكرة أبيهم، لا تبقي منهم أحدا ..كما أن مرضا مثل السل أو الكوليرا لا يرحم هو الآخر، وكان سكان العتيقة يطلقون أسماء على الأمراض، لم يبق أحد يتذكرها مثل (أبو مزراق) عن الطاعون ..

كان الأكل والشرب، يحتل سلم الأولويات لدى مواطني العتيقة، وأظن أن هذا الترتيب لم تنفرد (العتيقة) به، ولا يزال الناس في كثير من الأحيان عندما يريدون وصف رخاء أحد الأفراد يقولون بتباهي وتفاخر (مآكل شارب نايم)، يعني أنه أكل ( وهو الأهم) وشرب ونام .. ولن يذكر ما يتقاضاه من الأجر، فالدلالات تلك كافية لإخبار من يستمع عن حالة النعيم التي يكون المعني فيها ..

كانت مهمة رب البيت تشبه الى حد كبير مهمة ملكة (بيت النمل) في حركة مستمرة لتأمين عوامل البقاء من تدبير الغذاء وتخزينه.. كان تعلق الناس بالمطر وما يعنيه من (بشارة) على بقاء حياتهم، يشكل تعلقا أسطوريا غريبا، فبالرغم من أنهم مسلمون، لكن لفظ (ديم في العراق) و(بعل في بلاد الشام) لا زال يرافق حياتهم حتى اليوم، فأهل العراق القدماء الذين لم يسكنوا الى جانب الأنهر هم كأهل بلاد الشام الذين لم يسكنوا جانب الأنهر، فأهل العراق لا زالوا يسمون الزراعة المعتمدة على المطر بالزراعة (الديمية) نسبة الى الإله (أديم) وأهل بلاد الشام لا يزالون يطلقون على الزراعة المطرية عندهم بالزراعة (البعلية) نسبة الى الإله (بعل) ..

لم تكن هناك فرص للحياة دون الاعتماد على ما يرى الناس من عوامل مادية حولهم، صحيح أنهم كانوا يتوكلون على الله، ولا يقبلوا أن يبذروا بذور محاصيلهم إلا وهم على (طهارة) إذ كانوا يصلون الفجر ويذهبون للحراثة، ولا يحمل أحدهم (مذراة) أو (مقطف) إلا إذا كان متوضئا، حتى لا تطير بركة الله من المحصول .. كان الخوف من المجهول يحاصرهم، والمجهول عادة يتعلق بانحباس المطر لموسم وأحيانا ينحبس لموسمين وقد ينحبس لخمس سنوات على التوالي.. في تخطيط الرجال أرباب الأسر، يقوم الرجل بمهمة التخطيط الإستراتيجي، فلا يتصرف بما يخزنه من محاصيل في سنة وفيرة الإنتاج مرة واحدة، فقد يحسب حساب سنتين قادمتين، وعندما يأتي الموسم القادم على قدر من الخصوبة، فإنه ينتقل بسلم أولوياته من الأهم وهو الغذاء والتغذية الى مهمة تحتل درجة ثانية كبناء غرفة أو شراء ملابس أو شراء فرس للركوب ..

إذا كان أجدادنا قبل الإسلام، قد كانوا على درجة من رفعة النفس عندما يجوعون، فيلجئون الى (الإعتفاد بالفاء) أي الموت الجماعي، للأسرة كاملة حتى لا تهدر ماء وجهها في سلوك تأمين الغذاء في سنين القحط، عن طريق التسول أو بيع شرفها .. فإن تلك الخاصية الوراثية كانت موجودة في العتيقة .. فكان الناس يخفون جوعهم بشكل كبير حتى لا يتشفى بهم أي مراقب حتى لو كان صديقا .. وإن كان (هاشم) قد ذبح (النوق) ليحتذي به أهل قريش، فإن تلك الصفة قد انتقلت الى أهل العتيقة، فكانوا يتراحمون بينهم رغم عوز الجميع..

لقد أتت ثلاث مواسم (قحط) متتالية، فلم يحصل أي واحد من سكان العتيقة على حبة قمح أو شعير فيها، فكان لرجل ابن عم يسكن في منطقة كثيرة الأمطار فطلب منه أن يقرضه أربعة قناطير من القمح لحين أن يأتي الموسم، وحين وافق ابن عمه ، أرسل أبناءه على أربعة (جمال) ليحضروا القمح، في حين ذبح (جديا) ليحتفي بتلك المناسبة، وكان ترتيبه الاجتماعي في الحي متقدما بعض الشيء على جيرانه. فأخبر جيرانه بأن يحضروا لتناول طعام العشاء، وكان جاره، الذي يفصل بين منزليهما جدار قليل الارتفاع، من بين المدعوين، وعندما أتى لتناول العشاء اصطدم بحجر فسقط، فتبين للآخرين أنه مصاب بالعشى الليلي (عدم القدرة على الرؤية في الليل)، وبخبرة الناس، يعرفون أن من يصاب بذلك الداء، هو من الذين يحل بهم الجوع الشديد .. فانتبه صاحب الدعوة وسأله :
ما بك يا جار؟
الجار : لا شيء
صاحب الدعوة: إنني أرى امرأتك تأتي يوميا تحضر معجنها (وعاء العجين) لتخبز في (التنور) لدينا ..
سقطت دمعة من عين جاره وقال بصوت متكسر: إنها تأتي بوعاء العجين وتضع فوقه غطاء.. وتدخل الى (فرنكم) عندما يحين دورها (وهي عادة كانت تستخدم في سنين القحط، حيث تبطل معظم مواقد الحي إلا واحد أو اثنان، لتوفير الوقود) وأضاف الجار : إن وعاء العجين يكون فارغا ستة أيام في الأسبوع، حتى لا يكتشف أهل الحي أننا لا نخبز ..

بكى صاحب الدعوة وأمر أبناءه عندما عادوا أن يعطوا جارهم حمولة بعير من القمح الذي اقترضه من ابن عمه ..
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس