عرض مشاركة مفردة
غير مقروءة 20-02-2010, 09:15 AM   #12
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

الأسس الأخلاقية للمجتمع المدني

أراد آدم فيرغسون، وهو أحد قادة مفكري عصر التنوير الاسكتلندي في القرن الثامن عشر، أن يقيد السلطة السياسية الجزافية، وأن يخفف نفوذ المصلحة الخاصة عبر تأسيس المجتمع المدني على مجموعة من المشاعر الأخلاقية الفطرية*1

فيما كان (هوبز) و (لوك) يريان في المجتمع المدني وسيلة ينتجها التعاقد وتضمنها السياسة بيد أفراد اجتمعوا لتحصيل غاية مقصودة، ومع أنهما وبسبب تشديدهما على الصراعات الشخصية، فشلا في تقديم تفسير مقنع للروابط الاجتماعية؛ فإن (فيرغسون) شن هجوماً أخلاقياً على فكرة ومنطق (المصلحة الشخصية).

لقد اتفق (فيرغسون) مع العديد من معاصريه على أن (هم العيش والبقاء هو الينبوع الأصلي للفعل الإنساني)، ولكنه كان يدرك بوضوح أن الناس يشكلون المجتمعات لأسباب أوسع من مجرد البقاء. فهم قبل كل شيء، كائنات أخلاقية، ولا يمكن للعقل الذرائعي والتقدم الفردي أن يوفرا حياةً متحضرةً. *2

(1)

أصر فيرغسون على أن الرأفة والتعاون المتبادل، والإحسان هي ما يميز التعاملات البشرية، مثلما يعتورها الجشع والوحشية والقسوة. فالأنانية سوف تدفع الناس الى العيش وحيدين، وفي تنافس مع أقرانهم، ولكن القدرة على الاجتماع الطبيعي تمكننا من العيش مع الآخرين، ومساعدتهم، والإفادة من ميلهم لفعل الشيء نفسه.

ويسهب فيرغسون في المقارنة بين حالتي المنافسة البغيضة ومع حالة الرأفة، فيتساءل مستنكراً: هل السجايا الرائعة موجودة في مواطن الزيف، أم السلاطة، والخيلاء التي تروج فيها الموضة، ويتبختر فيها اللطف المتكلف؟ أم في المدن العظيمة والغنية حيث يعيش البشر متنافسين، بعرباتهم وهندامهم وصيت ثرائهم؟ هل في أفنية البلاط الباهرة، حيث نتعلم الابتسام بلا شعور بالمسرة، ونبدي الحنو من دون عاطفة، وفي السر يجرح بعضنا بعضا بأسلحة الحسد والغيرة، ولا عماد لرفعة قدرنا غير ظروف ليس بوسعنا نيلها بشرف دائماً؟

(2)

لم يكن فيرغسون راغباً في تأسيس المجتمع المدني على عقد، ورفض أن يتأمل في حال الفطرة (الطبيعة) السابقة على المجتمع والسابقة على السياسة. فمن البلاهة العودة الى زمان كان فيه البشر من دون أواصر اجتماعية، لأنهم من دون هذه الروابط لم يكونوا بشراً.

إن (المشاعر العظيمة) التي تؤسس طبيعة البشر الاجتماعية هي عواطف فطرية. والمجتمع المدني هو نمط الوجود البشري؛ فنحن ولدنا فيه وله، ولا يُتصور أننا نستطيع العيش خارجه. فتطورنا الخُلقي ورفاهنا المادي يتحققان من خلال ارتباطنا الحميمي بالآخرين، وليس ثمة تناقض بين المصلحة الذاتية الفردية والرفاه الأخلاقي للمجتمع.

إن حال الفطرة (الطبيعة) ليست جنة عدن القصية الغائبة، إنما هي موجودة هنا والآن، تتشكل حيث يعيش البشر معاً.

إن لدينا سبباً للنظر الى وحدة الإنسان مع أبناء نوعه بوصفها أنبل جزء من حظه. فمن هذا المصدر لا يستمد القوة وحسب، بل يستمد وجود أسعد عواطفه؛ ولا يستمد منه أفضل شيء في طبيعته، بل يستمد جُل طبيعته العاقلة. فإذا ما أُرسل إنسانٌ الى الصحراء وحيداً، فسيكون نبتةً اجتثت من جذورها، وقد يبقى شكلها الخارجي، ولكن ستسقط كل ملكاته وتذبل؛ فتتلاشى شخصيته الإنسانية الفريدة وطبيعته الإنسانية.

وعند الحديث عن الصقل، يقول فيرغسون: لا بد من التمييز الكلاسيكي بين البربرية والحضارة. فالناس البدائيون كائنات اجتماعية من حيث طبيعتهم، ولكنهم لا يستطيعون تطوير روابطهم الى أبعد من أواصر القرابة لأنهم يعيشون في حال البؤس والخضوع. فلا يمكن تأسيس حياة أخلاقية متطورة تماماً في بيئة كهذه، ولكن الانتقال من البدائية الى المجتمع المدني تميز في الرغبة بالأمان، وعزوف الأفراد عن (زج كل فرد في خدمة المنفعة العامة). وعليه كان ثمن نضج الإمكانات الأخلاقية للمجتمع المدني باهظاً.

(3)

يحاول فيرغسون أن يتفرد بشيء ـ وهو فعلا قد فعل ـ عندما يجعل من النمو الطبيعي للتطور في المجتمع أمراً مسلماً به، وأن التسريع في الوصول الى التطور بمدة أقصر يتطلب إرادة ونضال متواصلين. وأنه عندما يكون المجتمع غير مستعد للتسريع فإن سمات الانحطاط والتخلف ستظهر عليه.

(إن الذي كان أول من قال: سأتملك هذا الحقل، وسأتركه لورثتي من بعدي) لم يدرك أنه كان يضع أسس القوانين المدنية والمؤسسات السياسية. وإن الذي كان أول من يضع نفسه تحت إمرة قائد، لم يدرك أنه كان يضرب المثال على الخضوع الدائم بذريعة أن السَلاَب كان يستولي على ممتلكاته، والمتغطرس يطالب بخدمته.

(4)

من أهم إسهامات فيرجسون بالتطوير السياسي في معظم أنحاء العالم، هو قانون النتائج غير المتوقعة Law of Unanticipated Consequences. حيث يبين فيه، أن من المهم ألا نتوقع الكثير من التفكير المتروي والعقلانية، لأن التقدم الأخلاقي في بلد ما قد يأتي من أفعال الناس المصلحية الرامية الى ضمان ملكيتهم، أو زيادة التجارة، أو حماية حقوقهم. فالمجتمع المدني متشكل عبر ممارسات عرضية وعادات بقدر ما يتشكل بفعل قواعد صارمة.

المِلكية الخاصة، في المسار العام للشؤون الإنسانية، غير موزعة بالتساوي؛ لذلك فإننا مضطرون للمعاناة من تبديد الأثرياء للثروة، ومن وجوب إدامة الفقراء؛ ومضطرون لأن نحتمل وجود أنظمة معينة تضع بعض البشر فوق الحاجة للعمل، كي يكونوا بحسب حالتهم تلك، موضوعاً للطموح، ومرتبة يتطلع إليها من يكد ويعمل. ولسنا مضطرين لذكر أعداد الذين قد يُنظر إليهم في اقتصاد صارم على أنهم فائضون عن الحاجة في القائمة المدنية، والعسكرية، والسياسية، ولكن لأننا بشر، ونفضل الشغل، والترقي، والسعادة لطبيعتنا على مجرد كونها موجودة، فيجب أن نتمنى لكل جماعة، أن ينال أكبر قدر ممكن من أعضائها حصتهم من المشاركة في الدفاع عنها وفي حكومتها.

(5)

لم يقتنع فيرغسون بأن التحسن الاقتصادي كان نعمة لا تشوبها شائبة. فلعل الإفراط في الحضارة يمثل كارثة للمجتمع المدني نفسه بسبب التشظي الذي تطلق عنانه المصلحة الفردية وتقسيم العمل. والنمو الاقتصادي غير المُقيد يعني أن (المجتمع قد خُلق ليتألف من أجزاء، لا شيء فيها من المجتمع نفسه).

كان فيرغسون قلقاً بشأن النزعة الفردية ذاتها التي كانت ينبوع التقدم الذي لا ينضب. (إن أعضاء جماعة ما قد يشبهون، بهذه الطريقة، مواطني إقليمٍ محتل، فقدوا الإحساس بأي ترابط، سوى رابطة الدم أو الجيرة؛ ولا يشتركون في شؤون معينة يتعاملون بها، سوى التجارة: إن الترابطات، أو في الحقيقة الصفقات، قد تحوي الأمانة والصداقة؛ ولكن تفتقد الروح الوطنية التي نعاين الآن جَزْرَها ومَدها).

نحن نعيش في مجتمعات لا يكون فيها البشر وُجهاء حتى يكونوا أغنياء؛ حيث تُلتمس اللذة نفسها بدافع الخيلاء؛ وحيث الرغبة في سعادة مفترضة تُلهب أبشع الأهواء، فتغدو هي نفسها أساس البؤس؛ حيث العدالة العامة، مثل القيود المطبقة على الجسد، ربما تحول دون الارتكاب الفعلي للجرائم، ولكن دون استلهام مشاعر الصدق والتكافؤ.

كان فيرغسون يقف على أعتاب بدايات التطور الناضج لمجتمع السوق، واستبق ما سيفعله مجيء الرأسمالية بالجماعة الأخلاقية المتجسدة التي كانت بالنسبة له نموذجاً للمجتمع المدني. ولكنه لم يستطع أن يرى المستقبل بوضوح أكبر.

يتبع




هوامش من تهميش المؤلِف

*1ـ Adam B. Selingman, The Idea of Civil Society (New York: Free Press; Maxwell Macmillan International; Toronto: Maxwell Macmillan Canada, 1992. pp25-36

Adam Ferguson, An Easy on the History of Civil Society (New Brunswick, NJ: Transaction Publishers, 1995 p205
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس