عرض مشاركة مفردة
غير مقروءة 25-10-2006, 05:36 AM   #54
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

( 20)

هناك أمور يحير بها المرء كثيرا .. فعندما ترى رجلا يكدح ليلا نهارا، من أجل أن يؤمن لقمة لطفل صغير ويحرم نفسه من الكثير من الأشياء، فإنك تحير بذلك السلوك .. وعندما ترى طيرا يهيم على وجهه ليلتقط رزقا يضعه في فم مخلوق صغير ينتمي له، وأمه ترقد معرضة نفسها لهجوم الضواري والأفاعي فإنك ستحير أيضا، والكثير من تلك الظواهر التي يستسلم لها المرء في النهاية ليقول إنها إرادة الله ويصمت .

في كثير من الظواهر الأخرى التي لا تنتمي الى النوع الأول، تكون الأعراف أو العادات أو الضرورات الحياتية هي ما تكمن كمسببات وراء تلك الظواهر، فلماذا يتخصص القط بملاحقة الفأر ولماذا يتخصص الكلب في ملاحقة القط، فهذه ستكون من مهام العلماء المتخصصين في تلك الشؤون ..

أما أن يقوم الإنسان على خدمة الحيوان، ويبذل قصارى جهده في تلك الخدمة فهذا ما لم أعرف سره كما لن يعرف سره من يعيش في أيامنا هذه، قد يتعجل أحدنا عندما يقرأ مثل هذا الكلام ويجيب على الفور إجابات لم يبذل بها أي جهد، أو أنه لم يجرب مراقبة هذا النوع من الخدمات في حياته ..

في بعض القرى الجبلية واللواتي لا تكون ملكيات المواطنين فيها من السعة بمكان، قد يصدف أحدنا فلاحا يحرث مساحة لا تزيد عن 500متر مربع هي كل ما يملك، وتكون وسيلة الحرث بواسطة حمارا ضئيل الحجم، ولو توقفنا بجانب ذلك الفلاح، وسألناه : كم تتوقع أن يأتيك ناتجا من هذه المساحة، لتردد وتعصب قبل أن يجيب ، ولكن على السائل أن يتحلى بالصبر ويكرر على الفلاح السؤال، فإنه سيحصل على إجابة بأن الناتج لن يغطي كلفة اقتناء الحمار لمدة شهر، وإن واجهنا الفلاح بما استخلصنا من عدم جدوى اقتناءه لبادر بطردنا على الفور .

في العتيقة لم تكن تمر ساعة دون أن يكون للحيوانات ذكر في الأوامر أو القصص أو العمل نفسه، ومن يتفحص مكونات ذلك الاهتمام لاستنتج على الفور عبثية تلك العلاقة .

فكنا نسمع أسئلة رب المنزل لذويه : هل أسقيتم (الَطرشَات ) وهي كلمة تدلل على الحيوانات المنزلية من أبقار و خيل وحمير وغيرها .. هل (كربلتم ) التبن للطرشات ، أي هل أزلتم التراب والشوائب من التبن لتقدموه للحيوانات .. هل نظفتم تحت الطرشات .

هذا بالإضافة الى أن الآبار التي تكون في ساحات المنازل، لا يشرب أهل المنزل منها، لأنها تلوثت ببقايا روث الحيوانات، وعليه فإنه يتوجب أن يحضروا ماء شربهم من مكان لم يتلوث ببقايا الحيوانات، صحيح أنهم سيستخدمون الحيوانات لنقل الماء، لكن لولا وجود الحيوانات لوفروا هذا الجهد وتناولوا ماءهم عن قرب ..

وإذا جاءت سنين قحط (محل) فإن قسم من السقوف ستزال من مكانها، وسيؤخذ التبن لتغذية تلك الحيوانات، ومن الطبيعي أن طبقة بسمك نصف متر تقريبا قبل ضغطها والتي كانت توضع بالسقوف ستحل مشكلة تغذية الحيوانات لعدة أسابيع، وعلى أصحاب تلك الحيوانات أن يعيدوا ترتيب السقوف في وقت لاحق ، وهو جهد لولا الحيوانات لن يحدث ..

هناك حالة أخرى كنا نراها عند تغذية العجائز لصيصان ( صغار الطير) في حالات الديك الرومي، فتشوي العجوز بيضا و تخلطه ببعض القمح المجروش، وتغذي تلك الكائنات الحية به، في حين يجلس الأطفال يسيل لعابهم دون أن يحصلوا على مثل هذا الغذاء الخصوصي ..

في أيام (الدراس ) أي سحق القش لاستخلاص الحبوب منه، يقضي الفلاحون مدة شهرين وأكثر حتى ينجزوا تلك العملية. صحيح أنهم كانوا يستخدمون الحيوانات في تلك العملية، لكن كل أو معظم ناتج تلك العملية ستأكله الحيوانات نفسها، فمن المستفيد بالدرجة الأولى ؟ إنها الحيوانات .. ومن يستخدم من ؟ إنها الحيوانات التي كانت تستخدم الإنسان، ولكنه كان يخدمها دون أن يسأل أو حتى يفكر .. هكذا وجدوا آباءهم !

ولو نفق حيوان ( مات) فإن الحزن عليه سيفوق الحزن على أحد أعضاء المنزل من البشر، وسيكون حديث الناس لعدة أيام هو كيف أن فلان قد فقد حماره بالموت، ولكنهم لم يعملوا له بيت عزاء، وهو أمر لن يعترضوا عليه لو بادر أحدهم ذات يوم واخترع مثل هذا التقليد ..

كانت الأدوات وحتى المفردات اللغوية المختصة بالحيوانات تفوق تلك التي تستخدم للبشر، ففي حين لم تكن تجد طبيبا واحدا للبشر في عشرين قرية، كنت تجد في كل قرية بيطارا يهتم بصحة الحيوان. وستجد من يفصل لها الرسن والجلال ( غطاء الظهر) والمرشحة ( للخيل) و غيرها ..

لو قدر لأحدنا أن يعثر على أحد أبناء ذلك الجيل، والذي أظنه امتدادا لأجيال تصل الى آلاف السنين، وكان هذا المعمر قد رأى مدى التطورات التي حدثت في البلاد على كل الصعد، وتوجه أحدنا إليه بالسؤال أو بتلك الملاحظات التي أوردناها، وطلب منه تفسير للحكمة من كل هذا الحجم من الوفاء للحيوان، لضحك بصوت عال .. ولكنه لن يجيب ..
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس