عرض مشاركة مفردة
غير مقروءة 08-04-2010, 06:21 PM   #9
المشرقي الإسلامي
أحمد محمد راشد
 
الصورة الرمزية لـ المشرقي الإسلامي
 
تاريخ التّسجيل: Nov 2003
الإقامة: مصر
المشاركات: 3,832
إفتراضي

وبعدها تأتي إشارة الشاعر إلى الموال والفتى الأسمر لتزيد هذه الحالة اشتعالاً ،ذلك الاشتعال البالغ ذروته في الصورة التشكيلية (اللعبة المفضلة لشاعرنا العزيز) في هذه الرحلة من الأعين إلى حواف الذات –أقصاها-شوقًا للسفوح ، إذ الأمنيات لم تعل علوًا حقيقيًا بوجودها في سفح الجبل وإنما هي منعزلة عنه وبعد ذلك عرضة لنهش الصقور وذوات المخالب.لكن كانت هذه الحركة أو النقلة تأتي في اتجاه عكسي مع حركة النيل –من حيث المضمون- من النيل إلى مصبه أعلى الحبشة،فتكون جبال الملح هي ذلك المآل الذي آلت إليه الأمنيات ، في دلالة عكسية لماء النهر .


وهذا يدلنا على فهم المبدع العزيز-الذي هو في غنى عن الحديث عنه- لتقنيات القصيدة الحديثة .وتنطلق أولى الآهات بعد هذا السرد لتجسّد حالة المبدع والذي يجد نفسه وحيدًا في المضمار يناجي النيل وكان وجود أداة النداء يفيد البعد المادي وربما المعنوي لهذه الهبة التي تبارى في وصفها المؤرخون.وتأتي شهوة الماء وشوق الأرض وسمت الحب تعبيرات لتوضيح هذا العشق الذي يتجسد فيه النيل إنسانا هو وليد كل هذه المعاني الإنسانية الجميلة وقد تولدت من هذه التعبيرات وليعكس رؤية المبدع لهذه الهبة العظيمة والتي تجسد دورها في أنه أوجِد من أجل البقاء ،وهذا البقاء له طبيعته الخاصة النابعة من براءة وعذوبة هذه الطفولة ،وإن كنت أرى في ظني الشخصي أن الكيفية التي صيغت بها التعبيرات كان فيها قدر كبير من المباشرة وكان من الممكن اختزاله بشكل أفضل .


وتتسم هذه الملامح بتكامل عجيب حين يغدو النيل وليد الأرض طفلاً مدللاً تلبسه الشمس سمرة منسوجة من قلب السماء ،والجميل هو ذلك التوصيف لهذه الأشياء كلها والتي يتشكل منها العالم الشعري الخاص بالشاعر وذلك عندما تكون الشمس جرارًا من الضياء .وهذه القدرة على التكامل في بيئة التشبيه وتكوين عوالم ذات إسقاطات على الإنسان تزيد من قوة العمل وتأثيره على المتلقي.


ويزيد العمل عبقرية وتماسكًا من خلال الضرب على الوتر الأكثر حساسية وهو وتر التاريخ والأسطورة أسطورة إيزيس وأوزوريس التي

تحكى قصة الملك الطيب الخير أوزوريس الذى قتل على يد أخيه الشرير ست نتيجة للغيرة والضغينه.


وقد ألقى بجسد أوزوريس فى النيل، غير أن زوجته المخلصة إيزيس ظلت تبحث حتى عثرت عليه فى أحراش الدلتا. وعن طريق السحر الذى كانت تمارسه وتتسيده، اصبحت حاملاً.



وقد أنجبت إيزيس إبنها حورس الذى أصبح وريثاً لعرش والده وانتقم لأبيه أوزوريس الذى أصبح ملكاً على أرباب العالم الآخر.






وهذه الحالة الأسيفة التي ينخلع العشق فيها من فؤاد الإنسان يتحسر عليها الشاعر ،ليكون ذلك الطفل هو بكارة الحب –المروءة-الشوق –الانتماء كل تلك المعاني التي غابت عن الإنسان المصري أو غُيّبت عنه ،وقد تحكمت به أيدي ست وما يقابلها في العصر الحديث.والأجمل هنا هو مجادلة هذه الأسطورة وإعادة صياغتها مرة أخرى من خلال تغيير أحداثها وفق ما يرى المبدع ليتناسب مع الواقع،وهي أداة ةكثيرًا ما يلجأ إليها المبدعون في أعمالهم المختلفة،تلك المفارقة ذات المعطى التراثي والتي أضفى فيها شاعرنا العزيز ملامح الطرف التراثي (الأسطوري)على الحاضر ،من خلال نفي دلالته الحقيقية عنه،ويصبح معها الواقع المأساوي أشد إيلامًا وحسرة.


وتتعمق المأساة بعد ذلك من خلال التعيرات كف اليد العطشى-كف الفناء التي يحاصر بينها هذا النيل-المجتمع ، فالكف دائمًا رمز للعطاء لكن مزج المتناقضات كان تقنية يُعتمد عليها بشكل كبير اتكاء على الحقول الدلالية ذات المعاني الحزينة لتأتي هذه التركيبات المعبرة عن حالة يكون فيها النيل محاصرًا بين يد عطشى تنهبه وأخرى تفنيه .



كان التعبير عن الأسى المسجون يحمل موازاة مع النيل المحبوس


بين كفين العطش والفناء، كما أن هذه الدائرية في الغربة الممثلة


في الرحى مميزًا ويصبح معها الغد أكثر إظلامًا وقتامة. ويأتي الاستفهام الاستنكاري معبرًا عن رؤية حزينة يشعر الشاعر معها بالحيرة


هل شاب المجتتمع وضاعت براءته وحيويته أم أن مياه النهر صارت غير راوية ، ليكو ن النهر ها هنا متحولاً إلى دلالة أخرى وهي صوت الضمير الحي الذي صار غير قادر على الوصول إلى هذا المجتمع ، وهنا تطرح إشكاليات عدة كالإنسان والوعي ،ودور المثقف في المجتمع وتصبح الحيرة التي تتلبس الشاعر أداة للحث على إعادة النظر إلى هذا الإنسان وما يعتمل فيه من أفكار وثقافات أدت به في النهاية إلى ذلك الواقع المزري.


وكان التساؤل المختوم بأمشاج حلم لا يروح يحمل في طياته هذا التأرجح بين الأمل والخوف ويتمسك باحتمالية العودة إلى ما قبل الميلاد عل الميلاد يأتي منها ،وتكون الروابي هذه الأحلام التي طالما ظلت تنتظر من يعيد بعثها من جديد.وهذا التساؤل يحمل في طياته تأكيدًا على هذه الثقوب في الذاكرة،ويكون التعبير لم الحزن غدا أوردة في أحرف الشعر المتسم بهذه التكاملية في البناء مع ما سبقه من أفكار ابتدأت بالإنسان وانتهت بالشاعر الفرد عنصرًا إضافيًا في معادلة الحزن المنبعث من العتاب الصريح من خلال الأداة أنت والتي لا يجد فيها الشاعر بدًا من المصارحة التي اختفت خلف العديد من التعبيرات الرمزية لتأتي صريحة في هذه الأسطر الأخيرة معبرة عن هذا البوح الناتج عن انفجار ذا ت الشاعر وضيقه بما آل إليه ما هو فيه وهو في ذات الوقت لا يعفيه من العديد من مسؤولياته تجاه الواقع الذي هو جزء منه سواء صدق مع نفسه في ذلك أم لا.ومع هذه المباشرة يصرح الشاعر بهذا النيل الذي أمسى جسمًا دون روح . وهو بطبيعة الحال يسقط هذه الدلالات على الإنسان المصري.


هذه القدرة على صنع التصورات الذهنية والتحول بها من دلالتها الشكليةإلى دلالات أخرى مغايرة لها ، وهذا التكامل في الصياغات والصور الكلية والجزئية والتركيب في الصور أدى إلى حالة من الانبهار التي يقف القارئ معها عاجزًا عن التعليق إلا بأن الثقب لم يعد في ذاكرة النهر وإنما في ذاكرة(النقد)الذي لا يتمكن من إعطاء العمل حقه وإنما يقف على جوانب سطحية خوف الغرق في (النهر).رائع عملك أيها المبدع واعذرني للتأخر عليك في ذلك لكن أعمالك من الطراز التي تحتاج إلى وقت مخصص ومحجوز مسبقًا.


دمت مبدعًا وشكرًا على عطائك أيها النهر الذي روى صحراء خيمتنا.
__________________
هذا هو رأيي الشخصي المتواضع وسبحان من تفرد بالكمال

***
تهانينا للأحرار أحفاد المختار




المشرقي الإسلامي غير متصل   الرد مع إقتباس