عرض مشاركة مفردة
غير مقروءة 18-01-2011, 11:15 AM   #13
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

الفصل الرابع: الديمقراطية


إذا كان للمشروع النهضوي العربي الجديد ما يميزه عن سواه من مشاريع النهضة التي سبقته منذ القرن التاسع عشر، فهو في مضمونه الديمقراطي الذي يقوم عليه، أي في حسبانه الديمقراطية ركناً مكيناً من أركان النهضة ورافعةً من رافعاتها. كان يمكن القول، في ما مضى، إن النهضة تتحقق بمقدار ما ينجح مجتمعٌ أو أمةٌ في إنجاز التصنيع، ونشر التعليم، وبناء الجيش الحديث، وتعظيم الثروة. وقد يصحّ ذلك إلى حدٍّ بعيد. لكن الذي ثبت بالدليل التاريخي أن الطريق إلى ذلك كلِّه هي الديمقراطية بما هي النظامُ الذي يحرِّر مواطنيه من العبودية السياسية والخوف، ويطلق الطاقات الاجتماعية للإنتاج والإبداع والتنافس وتحقيق التراكم: الماديّ والمعنوي، ويعزز اللحمة الوطنية والقومية استناداً إلى رابطة المواطنة. وما أحوج الأمة العربية، التي يعطِّلُ الاستبدادُ طاقات أبنائها ويستبْعِدُهُم من المشاركة في صنع مصيرهم، إلى الديمقراطية وسيلةً لطلب التقدم ونظاماً لتحقيق الآمال النهضوية المعلَّقة منذ قرنين من الزمان، وذلك دون السقوط في شرك الوهم بأن الديمقراطية وحدها كفيلة بمواجهة كافة العقبات التي تعترض تجسيد المشروع النهضوي الجديد في الواقع العربي، فالديمقراطية شرط ضرورة وليس شرط كفاية.

1- في ضرورة الديمقراطية


حاجةُ الوطن العربي إلى الديمقراطية حاجةٌ حيوية لا غنًى عنها حتى تستقيم أوضاعُه وتنفتح أمامه سُبُل الخروج من أصفاد الكبت السياسي والاستبداد، ويتحَصَّل أبناؤهُ حقوقاً لهم أهدرتْها حِقَبُ القمع؛ فكيف إذا كان الهدف بناء نهضة: هذه التي لا طريق إليها سوى طريق التطور الديمقراطي. الديمقراطية – إذن – ضرورة تاريخية وسياسية بالمعاني الأربعة التالية:

أ- إنها ضرورة، ابتداءً، لكونها حقّاً عامّاً للشعب والأمة. فهي ليست ترفاً سياسيّاً يطلبه المواطنون العرب لهم، بل حاجةٌ أساسية لهم. إنها في جملة ما لهم من حقوق أُسوةً بغيرهم من شعوب الأرض. وهي حقوق ليست قابلة للحجب أو للانتقاص تحت أي عنوان آخر، والمساس بها في مقام العدوان عليها. وهي ليست مِنَّةً من حاكمٍ يقدّمها بالتقسيط، بل استحقاقٌ تفرضه المواطنةُ وعائداتُها السياسية على من يُفْتَرَض أنهم مواطنون يتمتعون بحقوق المواطنة. إنها "الضريبة السياسية" التي على الدولة أن تدفعها للمواطنين – مثل الأمن تماماً – لقاء الضرائب التي يدفعها المواطنون للدولة.

ب- وهي ضرورةٌ، ثانياً، لأنها الوسيلةُ الأمثل لإطلاق طاقات المجتمع والشعب، وتحريرها من السلبية والتواكل، والزجّ بها في معركة البناء الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والثقافي. فالمجتمع العربي – كغيره من المجتمعات البشرية – لا يملك أن يكسب معركة التنمية أو يجابه تحدياتها المتلاحقة دون تسخير طاقاته البشرية كافة. ولا يكون ذلك إلا بفك قيد العبودية السياسية عنها وتحرير إرادتها المُصَادَرَة، وتمتيعها بفرص المشاركة في صنع المستقبل والمصير وطنيّاً وقوميّاً.

ج- ثم إنها ضرورةٌ – ثالثاً – لأنها القاعدة التي تُبْنَى عليها العلاقة بين الدولة والمجتمع في المجتمعات الحديثة، والتي ينبغي – بالتالي – أن تقوم عليها العلاقةُ إياها في الوطن العربي. حين لا تستقيم العلاقة بين الدولة والمجتمع، فيشعر المواطنون بأنهم محضُ رعيةٍ للسلطان، وتنشأ أسباب الاحتقان والاضطراب والحَرَاك النازع نحو العنف. وحين تقوم على قاعدة الديمقراطية، يكون المجتمع في صدارة من يحمي الدولةَ ويدافع عنها على خلفية شعوره بأنها دولته. وما أكثر التحديات التي تتعرض لها الدولة في الوطن العربي اليوم وتهدّدها في وحدتها السياسية. وما أكثر حاجة الدولة اليوم إلى شعب يحميها ويَذُودُ عن بقائها. ولو أمكن أن تنتظم العلاقة بين الدولة والمجتمع، وبين السلطة والشعب، على مقتضىً ديمقراطيٍّ، لأمكن تحصينُ جبهة الوطن الداخلية في وجه أي خطر خارجيّ أو داخليّ. وإن الحاجة إلى الديمقراطية علاقةً بين الدولة والمجتمع هي عينُها الحاجةُ إليها لبناء العلاقة بين الكيانات العربية صوناً لوحدتها وتعزيزاً لتماسكها الجماعي في مواجهة التحديات المشتركة.

2- الشورى والديمقراطية

مهما قيل عن أن الديمقراطية نظام سياسيّ حديث أرستْه الثورات الاجتماعية العاصفة، المتشبعة بفكر الأنوار، ضد الأنظمة الإقطاعية والملكيات المطلقة المستبدة، ورسخَّتْه الثورات الاجتماعية اللاحقة في القرنين التاسع عشر والعشرين، فإن مما لا شك فيه أن حضارتنا العربية – الإسلامية وتعاليم الدين الإسلاميِّ الحنيف زوَّدتنا بمبادئَ ترتبط في محتواها بالمبادئ عينِها التي قام عليها النظامُ الديمقراطيّ: سلطةُ الأمة ومرجعيتُها والرقابة على الحاكم. وهي التي عبَّر عنها مفهوم الشورى الإسلامي: في دلالته القرآنية وفي بعض التطبيق التاريخي، وخاصة في عهد الخلافة الراشدة.

إن مقتضى الشورى، مفهوماً، أن أَمْرَ السياسة والحكم متروك للجماعة تتوافق عليه. وتطبيقُها أن السلطة في المسلمين تقوم من خلال اختيار الحاكم، لا بالتعيين أو بالتوريث؛ وأن الاختيار يقع بمقتضى عقد (المبايعة) يشترط على الحاكم شروطاً عليه التزامُها وإلاّ انْتَقَضَت بيعتُه. كما أن الجماعة التي اختارته تملك حق الاحتساب (الرقابة) عليه، وتملك حقّ خلْعِهِ إن نقض ميثاق التولية. وأمام محاولات "الخلفاء" الالتفاف على مبدأ الشورى وإفراغه من محتواهُ القرآني، قرّر المجتهدون من فقهاء المسلمين الأقدمين ومن مفكريهم في العصر الحديث أن الشورى ذات طابع إلزاميّ لا يقبل التحلُّل منه، فهي مُلْزِمة وليست مُعْلِمَة.

وقد يقال إن الشورى لم تتسع في تطبيقها التاريخي لإمكانية مشاركة الأمة والجماعة كافة في اختيار الحاكم وممارسة الحسبة، وإنما حُصِرت في "أهل الحل والعقد"، وهو ما يخالف النظام الديمقراطي الذي يُوَفِّر حق الاختيار للعموم من خلال الانتخاب والاقتراع. غير أنه وُجد من مفكري الإسلام المحدثين، منذ القرن التاسع عشر حتى اليوم، مَنْ اعتبر "أهل الحلّّ والعقد" هم نواب الأمة في المجلس النيابي اليوم. وفي الأحوال جميعاً، من المهم الانصراف عن عقد مقارنات غير تاريخية بين شكلين من النظام السياسي، والانصراف إلى التشديد على الجامع والمُشْتَرَك بينهما وهو: سلطة الأمة على نفسها واختيارها من يحكُمها وحقها في ممارسة الاحتساب على من يقوم على أمرها.

إن من يحاول دقّ إسفين بين الديمقراطية والشورى وفك الارتباط بين معنَييْهما بدعوى الاختلاف بينهما في الفلسفة الضمنية المؤسِّسة لكلّ منهما، أو بدعوى برّانيةِ الديمقراطية عن الإسلام وتلازمها مع العلمانية، لا يخدم النضال من أجل الديمقراطية في شيء.

3- الديمقراطية نظام شاملٌ للحكم


إن الديمقراطية نظامٌ شامل للحكم لا تَقْبَلُ تجزئة عناصرها أو انتقاء بعضها دون آخر؛ ولا يوصف نظامٌ سياسيٌّ ما بأنه ديمقراطي إلا متى اجتمعت فيه المبادئ والقواعد كافة التي تقوم عليها الديمقراطية كنظامٍ سياسيّ. وثمة عناصر/مبادئ سبعة كبرى تؤسّس هذا النظام وتمنحه ماهيته:

أولها الحرية: حرية الرأي والتعبير والنشر والتنظيم...؛ أي جملة ما يجعل الأفراد مواطنين: يمارسون حقهم في مواطنتهم، من دون قيدٍ على حرياتهم إلا ما يفرضه احترامُ حريات الآخرين، ومن دون رقابةٍ على أفكارهم إلا ما كان يدعو منها إلى تهديد نظام الحريات والديمقراطية ويحرِّض على العنف السياسيّ الأهلي، ومن دون انتقاصٍ من الحق في التنظيم وتشكيل الجمعيات السياسية إلا ما كان يقوم منها على أساسٍ عرقي أو طائفي أو مذهبي أو عشائري...

وثانيها التعددية السياسية والحق في المشاركة، أي إقامة السياسة على مقتضى الحق العام أو الإقرار بأنها حق عام لطبقات المجتمع وفئاته ونخبه؛ بما يعني منع أي شكل من أشكال احتكار التمثيل السياسي من قِبَلِ حزب حاكم واحد، أو حزبٍ قائد لجبهةِ أحزابٍ "حاكمة"، وأيّ شكل من أشكال مُصَادَرَةِ الحياة السياسية وإسقاط نظام الحزبية بدعوى عدم تمزيق وحدة الشعب! ولا يكفي إقرار التعددية السياسية إن لم يُكفل حق كافة الأحزاب والمنظمات في المشاركة السياسية وفي التنافس المشروع على التمثيل السياسي وكسب الرأي العام بالوسائل الديمقراطية.

وثالثها النظام التمثيلي (المحليّ والنيابي) المشمول بالضمانات القانونية والدستورية التي تكفل:
- حرية الاقتراع لكل المواطنين البالغين حق التصويت والمسجَّلين في القوائم الانتخابية، وإحاطة العملية الانتخابية بأسباب الشفافية والنزاهة، ومنع أي شكلٍ من أشكال مصادرة الإرادة الشعبية وتزوير التمثيل إما من خلال التدخل غير المشروع للإدارة في نتائج الانتخابات وإما من خلال استعمال المال السياسي لشراء الأصوات والذمم والضمائر والتحكم في اتجاهات اختيار الناخبين.

- حق الرقابة على السلطة وممارستها من خلال وسائط الرقابة كافة: المُسَاءَلَة النيابية للسلطة التنفيذية، والرقابة على صرف المال العام، والرقابة الشعبية على إدارة السلطة.

إن النظامَ التمثيليَّ في الديمقراطيات الحديثة هو الشكل المؤسَّسيُّ للتعبير عن مبدأٍ السيادة الشعبية أو عن المبدأ القائل بأن الشعب مصدر السلطة: يمارسها عبر ممثلين ينتخبهم بحرية.

ورابعها إقامة النظام السياسي على قاعدة الفصل بين السُّلْطات واحترام استقلالية القضاء.

وخامسها التداول الديمقراطي للسلطة وإقرار مبدأ حق الأكثرية السياسية التي أفرزتها الانتخابات النزيهة في تشكيل السلطة التنفيذية وإدارتها عملاً بمبدأ أن السلطة حق عام للشعب والأمة وليست حقاً خاصّاً لحزبٍ أو فئةٍ أو أسرةٍ أو فرد.

وسادسُها، الذي تتوقف عليه سائر المبادئ المذكورة، هو النظام الدستوري الذي يمثل النظام الأساس للدولة وينظِّم سلطاتها كافة والعلاقات بين أجهزتها والحقوق المدنية والسياسية لمواطنيها. وهو النظام الذي ينبغي أن توكَلَ كتابتُه إلى هيئة تأسيسية منتخبَة ويجري إقرارُهُ بواسطة الاستفتاء الشعبيّ عليه.

وسابعها نظام اجتماعي اقتصادي عادل يتمتع فيه المواطنون بحقوق متساوية، وفرص متكافئة على النحو الذي يوفر لهم الحماية ضد انتهاك إرادتهم السياسية، وحريتهم في التعبير عن آرائهم، واختيار من يرونه الأصلح لتمثيلهم.

إن تطبيق مبدأ من هذه المبادئ دون آخر يُسْقِط عن النظام ماهيته الديمقراطية، فالديمقراطية نظام شامل وكُلٌّ لا يَقْبَل التجزئة.
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس