عرض مشاركة مفردة
غير مقروءة 18-01-2011, 11:20 AM   #15
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

الفصل الخامس: التنمية المستقلة


1- في ضرورة التنمية المستقلة



يعاني الوطن العربي من تخلّفٍ اقتِصادي وعلميّ حادّ نتيجة السياسات الاقتصادية المطبَّقة فيه وعلاقات التبعية التي تصادر قرار دوله. وينعكس ذلك كله على أوضاع فئات المجتمع كافة، وخاصة منها الكادحة والفقيرة التي يطحنها الفقر وتُرْهِقُها أوضاع التهميش؛ مثلما ينعكس على الاستقرار والتوازن الاجتماعيَّيْن وعلى سيادة الدولة نفسِها: التي يتزايد فقدانُها لقرارها الوطني بتزايُد فقدانها الأمن الغذائي وارتهانها لإملاءات القوى المالية والاقتصادية الدولية. والدولةُ – أيةُ دولةٍ – لا تملك أن تؤسس شرعيتَها، أو أن تَصُون هذه الشرعية، إلاّ متى أمْكَنَها إشباع حاجات مواطنيها وأوَّلها الغذاء والتعليم والصحة والمسكن؛ وثانيها حماية سيادتهم الوطنية والقومية من أي شكلٍ من أشكال الاستباحة التي تهدِّد بالنَّيْل من الاستقلال الوطني والقوميّ والاستقلالُ الاقتصاديُّ وجهٌ من وجوهه.

إن التنمية المستقلة، بهذا المعنى، حاجة حيوية اقتصادية وسياسية في الوقت نفسه بالنسبة إلى مجتمعٍ مثل المجتمع العربي يعاني من المشكلات التي ذكرنا. إنها حاجة اقتصادية للقضاء على الفقر والتهميش والبطالة والأمية، ولتوفير أجوبة مادية عن الحاجات الغذائية للمواطنين وضمان عيشٍ كريمٍ لهم. وهي حاجة سياسية لأن تحقيقها هو السبيل الأكفل لتحصين السيادة الوطنية والقومية وحماية استقلالية القرار. وعليه، لا بدَّ من إعادة تعريف معنى التنمية المستقلة في ضوء هذا التلازم بين بُعْدَيْها الاقتصادي (والعلميّ والتِّقاني استطراداً) والسياسيّ، وفي ضوء ما بات يعنيه مفهوم الاستقلالية في عصر العولمة وتشابُك المصالح.

2- في المفهوم الشامل للتنمية المستقلة

إن الاعتقاد بأن الحديث عن التنمية المستقلة في عصر العولمة يمثل ضرباً من الخلط النظري، أو نوعاً من الحَنين غير العقلاني إلى عهدٍ مضى، اعتقادٌ خاطئ. وهو ناجمٌ عن فرضيتين مغلوطتين عن التنمية المستقلة:

أولاهما ترادف معنى التنمية المستقلة مع معنى الاكتفاء الذاتي أو الانقطاع عن العالم، وهو ما لم يَقُل به أحدٌ ممن دافعوا عنها في الماضي وفي الحاضر. وثانيتُهما تذهب إلى أن إدماج الاقتصادات النامية في السوق العالمي، على النمط الطليق الذي فرضته القوى الاقتصادية المهيمنة، يمكن أن يؤدي إلى تنمية حق. وإذْ يجانب مفهوم التنمية المستقلة، من منظور المشروع النهضوي العربي، هذين الفهميْن الخاطئيْن لها، يستند إلى مبادئ خمسة ناظمة تؤسِّسُه وتُميِّزه:
المبدأ الأول والأساس الناظم لفكرة التنمية المستقلة هو تحرير القرار التنموي القطري والقومي من السيطرة الأجنبية، دون أن يعني ذلك الانقطاعَ عن أفضل منجزات البشرية في العالم المعاصر. ويتطلب ذلك تعبئة الموارد الذاتية للأمة وتنميتها وتوظيفها بأقصى كفاءةٍ ممكنة.

والمبدأ الناظم الثاني هو اعتماد مفهومٍ للرفاه الإنساني يتجاوز التعريفات الضيقة المقتصرة على الوفاء بالحاجات المادية للبشر إلى التمتع بالمكونات المعنوية للتَّنَعّم الإنساني مثل الحرية (حرية الفرد والمجتمع والوطن)، والمعرفة، والجمال.

والمبدأ الناظم الثالث للمفهوم يقوم على أن مصدر القيمة في العالم المعاصر قد أضحى إنتاج المعرفة أكثر من كونه ركام الموارد الأولية، أو الأرصدة المالية، أو حتى حجم الناتج الإجمالي بالتقويمات التقليدية. ومن ثم فإن خيار التنمية الجدير بالاعتبار اليوم هو إقامة مجتمعات المعرفة.

والمبدأ الناظم الرابع للتنمية المستقلة في الوطن العربي هو إنشاءُ نسقٍ مؤسَّسيّ للتعاون العربي يتوجه نحو التكامل القومي وصولاً إلى ما يمكن تسميته "منطقة مواطنة حرة عربية". كما أنه ومن المهم هنا التمييز بين مرحلتين: أولاهما تنمية تكاملية يتولاها كل قطر لتحقيق تكامل داخله وما بين الأقطار، والثانية تكامل إنمائي يتولى فيه الكيان التكاملي تسيير دفة التنمية. وتتوافق المرحلة الأولى مع مرحلة بناء المشروع النهضوي والثانية مع مرحلة تسييره. ومن ثم فإن "منطقة المواطنة الحرة العربية" تتوافق مراحل بنائها مع مراحل التكامل القومي.

والمبدأ الناظم الخامس للتنمية المستقلة هو الانفتاح الإيجابي على العالم المعاصر بغرض الاستفادة من أفضل منجزات البشرية.

بهذه الأبعاد كافة يأخذ المشروع النهضوي العربي مفهوم التنمية المستقلة ويعيد التشديد عليها كهدف وكمطلب من أهدافه ومطالبه.

3- غاياتُ التنمية المستقلة ووسائلُها


الغاية الأساس للتنمية المستقلة في الوطن العربي هي تحقيق أعلى مستوىً ممكن من الرفاه الإنساني وتعظيمه باستمرار. وفي منظور الوقت الراهن، يتعين أن تحظى الغايات الفرعية التالية بأولوية حاسمة:
- توفير السلع العامة الأساسية وضمان الأمن الغذائي والمائي.
- محاربة أدواء المسار التنموي العربي الراهن مثل الفقر والبطالة والفوارق الطبقية الفاحشة الناجمة عن سوء توزيع الدخل والثروة. وهو ما يتطلب ترقية الكفاءة الإنتاجية للمواطن وللاقتصاد العربي، والسعي في تحقيق تكامل الاقتصادات القطرية العربية.
- ضمان التناغم مع البيئة حرصاً على دوام التنمية.

وثمة وسائل أربعة لبناء التنمية المستقلة:


أولها وأهمّها إقامة التنظيم المجتمعي الذي يمكن أن يحمل غايات التنمية في الوطن العربي. وهو ما يتحقق في تضافر قطاعات المجتمع الثلاثة (الدولة، وقطاع الأعمال، والمجتمع المدني) مع خضوعها لمعايير الحكم الصالح على أن يعرف على نحو يتسق مع غايات المشروع حتى لا يضيع في خضم معايير تفرضها قوى الهيمنة العالمية. فلقد تبيَّن أن إقامة التنمية بالاعتماد أساساً على قطاع خاص منفلت ليس إلاّ سراباً خادعاً يحمل في طياته خدمة مصالح القوى المهيمنة على الاقتصاد العالمي. وعليه، لا بديل من دورٍ مركزي لدولةٍ فاعلة وقادرة في مسيرة التنمية المستقلة تضطلع بمهمة ضبط النشاط الاقتصادي والإنتاجي وربطه بالمصلحة العامة، بما في ذلك ضبط نشاط قطاع الأعمال العام. ويتفرع عن هذا النمط من "الاقتصاد المختلط" الحاجة إلى قيام جهد تخطيطي من قبل الدولة.

ثانيها بناء الطاقات الإنتاجية العربية، الذي يستلزم تنمية الموارد وتعبئة الادّخار المحليّ وضمان أقصى استفادة من رأس المال البشري العربي في الداخل، مع العمل على توظيف الإمكانات العربية الهاربة، سواء في صورة رؤوس أموال نازحة أو طاقات علمية بشرية مهاجرة.

وثالثها بناء آليات التكامل العربي في جميع مجالات النشاط الاقتصادي، وبوجهٍ خاص في ترقية الإنتاجية وتعظيم التنافسية. والمقولة الشائعة إن غياب الإرادة السياسية لدى الأنظمة الحاكمة هو المعوق الأساس لتحقيق هذا التكامل، وتشير تجارب تحرير التجارة إلى أن المسئولية تمتد لتطول قطاع الأعمال من صناع وتجار أرادوا أن يفتح الآخرون أسواقهم بينما صمموا على قوائم طويلة من الاستثناءات. كذلك يجب التنبيه إلى المعاداة الخارجية لاستخدام التكامل أساساً لتنمية مستقلة.

ورابعها مواجهة المؤسسات الاقتصادية الدولية التي تطرح نموذجاً اقتصادياً ينفتح أمام عابرات القوميات ورأس المال والتكنولوجيا الأجنبية، وتقديم نموذج تنموي مستقل بديل يحظى بمؤزارة شعبية، ويخرج من مصيدة المعونات والمساعدات المشروطة، ويعيد تحديد دور صندوق النقد الدولي في إدارة الاحتياطيات الدولية، وينقل الكثير من وظائفه الإشرافية التي تمس السياسات الوطنية إلى مؤسسات قومية أو وطنية بديلة.

إن فرص نجاح التنمية المستقلة في الوطن العربي ممكنة إن توافرت شروط الحكم الصالح. ذلك أن القصور التنموي الراهن شديدُ الصلةِ بالخلل الكبير الذي يستبد بنمط السلطة وممارسة الحكم في البلدان العربية فينجم عنه التخلف والتبعية تماماً كما ينجم عنه سوء توزيع الثروة وانعدام الحياة الديمقراطية.
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس