عرض مشاركة مفردة
غير مقروءة 18-01-2011, 11:34 AM   #20
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

الفصل الثامن: آليات تحقيق المشروع


يحتاج كل مشروع إلى آلية عمل للتحقيق تتناسب مع قواهُ الاجتماعية وتَلْحَظُ مواطن القوة ومواردها في المجتمع وهذا ما ينطبق على المشروع النهضوي العربي حيث آلية تحقيقه تفترض أخذ المعطيات التالية في الحسبان.

1- القوى الاجتماعية والسياسية والوسائل النضالية


في أي تصوُّرٍ للقوى الاجتماعية والسياسية العربية التي قد تكون الحامل التاريخي للمشروع النهضوي؛ وفي أي تقديرٍ للوسائل النضالية المفترض أنها الأنسب للاستعمال من أجل تحقيق ذلك المشروع، لا بدّ من التشديد على الموضوعات النظرية والسياسية التالية:
أ- إن أخطر ما قد يتعرض له المشروع النهضوي، عند تصوُّره آليات تحقيقه، هو النظر إليه بما هو كُلٌّ لا ينتظر سوى التحقُّقَ دفعة واحدة، بدلاً من النظر إليه بما هو سلسلة من المسارات المختلفة والمتفاوتة، وسلسلة من التراكمات المحكومة بقانون التفاوت في التطور.

ب- لا شك أن المشروع النهضوي العربي يستند إلى قاعدة عريضة من القوى صاحبة المصلحة فيه، ومع ذلك لابد من الانتباه إلى أن القوى الاجتماعية العربية في حالةِ حَرَاكٍ شديد وسيولةٍ في وقائع التحول. ولذلك، فإن كل تعيينٍ مبدئي لقوى افتراضية (قوى الشعب العاملة، الأمة، النخبة، الكتلة التاريخية... إلخ) قد يصطدم بوقائع اجتماعية معاكسة أو قد يُسْقط من الحسبان قوًى جديدة أو صاعدة ربما يرشحها الواقع لأدوار كبيرة. ولذلك، فإن أهداف المشروع النهضوي وقضاياه ستظل تنتج قواها الاجتماعية التي تحملها حين تجد مصلحة فيها. ومن الضروري في هذا السياق ضمان مساندة الجماهير العربية للمشروع بحيث تحرص تلقائياً ودوماً على جوهره وتمنع أية قوى غير مؤمنة به أو ببعض جوانبه الأساسية من تعويق مسيرة النضال من أجل تجسيده وتوجيهها جهة أخرى. ويقتضي هذا أن تستمد من المقاصد النهائية للمشروع قائمة من المعايير والمؤشرات لتقييم عناصر القوة ومواطن الضعف، التي تنفذ منها التحديات، وتقدير القوى المضادة لمسيرته سواء في الداخل أو من الخارج والتحالفات بينها، وكيفية التعامل معها. وهنا يجب أن تحظى العوامل الآنية والمستقبلية وليس التاريخية بالاهتمام، مما يستدعي إيضاح التكاليف والمنافع لكل من شرائح المجتمع، في كل من الأجل القصير والطويل، والتنبيه إلى الآليات التي يمكن أن تلجأ إليها القوى المضادة، خاصة خلال المراحل الأولى التي يعظم حجم التغيير الذي يصيب الأوضاع القائمة للوطن العربي وشرائحه المختلفة.

وانطلاقاً من ذلك يتعين على منظري المشروع الوحدوي أن يلحظوا مكانة كل فئات وقوى الشعب العربي، بما في ذلك تلك التي قد يضر المشروع بمصالحها في مراحله الأولى. فعلى الرغم من أن القوى السياسية الذاتية للمشروع هي القوى التي ترتضي العمل بمبادئه، ويفترض أن تكون الأكثرية، فمن المؤكد وقوف فئات أخرى في المجتمع ضده. فئات قد أدت بها الظروف المحلية والدولية، والأثرة السلبية، إلى ربط نفسها ارتباطاً نفعياً بالأجنبي، وخلق المتعاونين المحليين الذين ييسرون تنفيذ مآرب هذا الأجنبي ويجنون من ذلك المنافع ضد إرادة معظم فئات الأمة ومصالحها، ومع مضي مشروع الوحدة العربية قدماً في حيز التنفيذ وبروز محاسنه وجني ثماره يزداد المقتنعون بجدواه ويتحولون إلى منادين به ومنضوين تحت لواء تنفيذه. ويلقى السائرون في ركب الأجنبي مصير سابقيهم.

ج- على الرغم من المسئولية التاريخية للفصائل القومية العربية تجاه المشروع النهضوي العربي الجديد، ومن ثم ضرورة خروجها من حالة التشرذم والانقسام التي تعاني منها فإن القوى السياسية للمشروع النهضوي ليست معطاة سلفاً، وإنما هي قوى قيد التكوين مع نموّ تناقضات الأنظمة الحاكمة، دون أن يعني ذلك تجاهل أدوار التيارات المتولدة عن الفترة السابقة: أي القومية واليسارية والإسلامية. ويجب توقُّع أفقيْن اثنيْن على الأقل: الأفق الأول هو توقُّع ما يمكن أن تولِّده التحوُّلات المعتملة الآن داخل التيارات الثلاثة الرئيسَة المذكورة من تركيبات متجددة، بل متغيرة. أما الأفق الثاني، فهو توقُّع نشوء حركات جديدة، علماً بأن بعضها نشأ أصلاً، ومنه تلك الحركات المشمولة بتسمية الحركات الاجتماعية الجديدة أو حركات المجتمع المدني.

د- تحتاج فكرة الطليعة، بمعناها التقليدي الموروث، إلى تمحيصٍ نقديّ، لأنها بُنِيَت على فكرة الحزب العقائدي صاحب الرسالة التنويرية، أو على تنزُّل النخبة "الواعية" بمنزلة من ينوب عن الجمهور. إن أيَّ تصوُّرٍ للعمل الحزبي – بأفق نهضوي – ينبغي أن ينطلق من الحاجة إلى استبدال الأحزاب الشعبية (العقائدية النخبوية) بالأحزاب الطليعية، أي استيلاد الأحزاب – الوسائل بدلاً من الأحزاب التي هي أهدافٌ بذاتها، ولا بدّ من إعادة بناء الصلة بين الحزب والناس على نحوٍ تصبح فيه المرجعية في العمل الحزبي للناس، لا إلى النصّ (العقائدي – الإيديولوجي)، وعلى نحوٍ يصبح فيه مبدأ تمثيل الناس والاحتكام إلى الرأي العام – داخل الأحزاب وخارجها – مقياساً لصواب رؤاها وبرامجها والسياسات. نعم، للأحزاب دور تربويّ في المجتمع وفي أوساط جمهورها. لكنه لا ينبغي أن يكون تلقينياً، بل أن يكون قائماً على حوار. ولا ينبغي أن يتصور نفسه دورَ هدايةٍ للناس إلى الحقّ المطلق. وفي مطلق الأحوال، لا يمكن فرض التغيير على الناس فرضاً بدعوى وجود مصلحةٍ لهم فيه لا يَعُونَها. بل يجب أن يأتي ثمرة اختيارهم الحرّ واقتناعهم الواعي. والاحتكام إلى الرأي العام هو المقياس الأول والأخير في تغليب خيارٍ مجتمعيٍّ على آخر.

هـ- ينبغي عدم الخلط بين الدولة والسلطة حين الحديث عن المجتمع المدني وقوى التغيير الاجتماعية. إن الفكرة النيوليبرالية التي تضع المجتمع في وجه الدولة وتعتبر كل إضعاف للثانية قوةً للأولِ تُسهم في توسيع فضاءات التعدُّد والحرية، فكرةٌ خطيرة. إن الدولة – بما هي إطار السيادة على الأرض والناس والثروات ومنظومة التشريعات الشاملة للجميع وجملة المؤسسات التمثيلية والتنفيذية والقضائية – عنصرٌ أساسٌ، بل حاسمٌ، في البناء الوطني والقومي، وجهازٌ لا غنًى عنه في إدارة الحياة الاقتصادية والاجتماعية للمجتمع. ومن النّفاق غيرِ المجدي الادّعاء بأن لا دور للدولة ممكناً في الاقتصاد والاجتماع الحديثين. ومن المنطقي أن يكون هذا الدور حيويّاً في بلادنا لحداثة تجربة الدولة فيها، وهشاشة وحداتها الداخلية، وضرورة بناء وحدتها القومية. إن التمييز القاطع بين إضعاف الدولة وبين التحرُّر من الأنظمة والمؤسسات السلطوية الاستبدادية ضروري هنا. ذلك أن إضعاف الدولة من كافة النواحي العسكرية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية قد يفضي إلى إضعاف الوحدة الوطنية، بل ربما أسهم أحياناً في تفجيرها. ناهيك بأن من المستحيل تصوُّرُ أي تقدّم نحو بناء الوحدة القومية دون الأخذ في الاعتبار الدور الحاسم الذي يمكن – ويجب – أن تنهض به الدولة في هذا المجال.

و- ينبغي، في مضمار الحديث عن موقع المنظمات غير الحكومية في المشروع النهضوي العربي ومساهمتها فيه، الاعتراف بأن قيامها آذَنَ بتَمَلْمُلٍ وتحرُّكٍ عميقيْن في المجتمعات العربية المعاصرة؛ وأن ممّا يُحْسَب لها في خانة الإيجابيات مساهمتها في تعريف قطاعات واسعة من المواطنين العرب بحقوقهم الأساسية، ونجاحها أحياناً في التخفيف من الآلام والحرمان لدى فئات من شعبنا، وفي فرض تشريعات أكثر احتراماً لحقوق الإنسان والبيئة والمرأة، ثم نجاحها في الزج بمئات الألوف من الشباب العربي في الشأن العام وإتاحة فرصة اتصال قطاعات منهم – من الطبقتين الوسطى والعليا – بأوساط شعبية لم تتح لهذه القطاعات من قبل فرصة الاتصال بها والتعرف على مشكلاتها. لكن تقدير ما يمكن أن تساهم به في المشروع النهضوي لا يكفي أن يستند إلى تلك الأدوار الإيجابية، بل ينبغي استكمال صورته باستحضار الأوجه السلبية في عملها وأبرزها:

- إن قسماً كبيراً من المنظمات غير الحكومية في الوطن العربي لا تنطبق عليه التسمية ذاتها. فبعضها أنشأتْه أطرافٌ في السلطة، أو لم يكن مستقلاً عن هذا الجناح أو ذاك من السلطة، وبعضها الآخر له انتماؤه الحزبي.

- إن قسماً كبيراً منها مرتهن لمصادر التمويل الخارجية وما تمليه من شروط وتوجهات وأولويات غالباً ما تكون مشدودة إلى المركز الامبراطوري الأمريكي والمنظمات الدولية التابعة له.

- نادراً ما شكلت المنظمات غير الحكومية مدارس ناجحة في الديمقراطية على الرغم من إعلاء معظمها الديمقراطية فوق سائر أهدافها.

- تجزئتها المطالب الشعبية والمجتمعية إلى اختصاصات مختلفة (نساء، بيئة، حقوق إنسان، تنمية، تمويل... إلخ).

ز- في العلاقة بين المنظمات غير الحكومية وبين الأحزاب السياسية، تبدو الأولى وكأنها تنافس الثانية، معتمدة في تجنيدها الشباب على نفور هؤلاء من الأحزاب لأسباب شتى. لكن الذي ينبغي أن نَلْحَظَهُ هو أن المنظمات غير الحكومية تتجه حثيثاً إلى النشاطات القطاعية أو الموضعية، ولا تؤدي الأدوار المفتَرض بالأجهزة الحزبية تأديتها: في تكتيل المصالح والمطالب وفق رؤىً وبرامجَ مشتركة، وتأمين انتقال الحركة والنضالات الجماهيرية والاجتماعية من المستوى المناطقي أو القطاعي إلى المستوى الوطني، ومن المستوى المطلبي والنقابي إلى المستوى السياسي.

ح- يستدعي تحقيق المشروع النهضوي عملاً سياسيّاً عربيّاً مشتركاً. وقد عرفت العقود المنصرمة تجارب عدة في بناء أحزاب عاملة على المستوى القومي. وسيكون من المفيد والضروري، عند أي تجربة مستقبلية من العمل السياسي العربي الموحّد، الاستفادة من الأخطاء التي انطوت عليها التجارب السابقة، وبالذات تلك التي سمحت بتسخير نضالات فروع الحزب في سائر الأقطار لخدمة نظامٍ بعينه تحت عنوان خدمة الحزب.
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس