عرض مشاركة مفردة
غير مقروءة 13-02-2010, 09:28 PM   #9
ياسمين
مشرفة Non-Arabic Forum واستراحة الخيمة
 
الصورة الرمزية لـ ياسمين
 
تاريخ التّسجيل: Apr 2008
الإقامة: المغرب
المشاركات: 2,102
Post

هذا النوع من الرجوع إلى "الأصول" لبناء تراث جديد يخلف القديم ويتجاوزه هو ما نقصده بـ"التجديد من الداخل". وغني عن البيان القول إن القيام بهذه المهمة تتطلب نوعا من "الرشدية" جديدا: كان ابن رشد واسع الاطلاع على الثقافتين: العربية الإسلامية واليونانية الفلسفية التي كانت تمثل "الحداثة" في ذلك الوقت. لقد كان يتكلم داخل كل منهما من موقع "المفتي"، مسلحا بروح نقدية نادرة المثال. إن الجمع بين الثقافتين على الطريقة الرشدية ضروري لعملية التجديد من الداخل: وكما ذكرنا قبل فالبيضة لا تتحول إلى دجاجة من تلقاء نفسها، بل لابد لها من ظروف مواتية تقع خارجها. وواضح أن هذه "الظروف المواتية" لا تصنع دجاجة بمفردها بل لا بد من البيضة أولا.
تحرير الحاضر والمستقبل من الماضي عملية يجب أن تبدأ بالمصالحة مع هذا الماضي، باستيعابه والعمل من ثم على تحريك عوامل التجديد فيه وبالتالي إعادة بنائه. إن "الماضي" -ولنقل "التراث" فهو المقصود أساسا- ليس هوية جاهزة دوما ومثبَّتَة نهائيا. كلا. إنها هوية تصير مثلها مثل الحاضر. كل عصر وكل فريق يقرأ الماضي حسب حاجته. فإذا عجز أصحاب عصر ما عن قراءة ماضيهم حسب حاجتهم فالعيب ليس في الماضي بل فيهم هم، و غالبا ما يكون هذا العيب هو أنهم لا يعرفون ماضيهم فلا يتبـيَّـنون فيه حاجتهم. وحتى لو كانت هذه الحاجة هي التخلص منه فلا بد من معرفته، فالتخلص من الشيء لا يكون بالجهل به ولا بتجاهله. وقديما قيل لمن منع الفلسفة: تعلم الفلسفة واجب. وحتى إذا كنت ترى العكس فيجب أن تتعلمها لتعرف لماذا تمنعها.

***

لقد تحدثنا عن "تحرير الحاضر والمستقبل من الماضي" بالنسبة للثقافة العربية. أما الثقافة الأوروبية فهي لم تعد في حاجة إلى هذا النوع من "التحرير"، لأنها قد قامت به بالفعل وعلى الطريقة نفسها، أعني التي ذكرنا. وكما شرحنا ذلك في مكان آخر([13]) فلقد بدأت عملية "التحرير" هذه فيها مع القرن الثاني عشر الميلادي في صورة إحياء الآداب الرومانية والإغريقية، وما أعقب ذلك من قيام "النزعة الإنسانية" Humanisme والثورة على كنيسة القرون الوسطى وقيام حركة الإصلاح الديني وغير ذلك من مظاهر حركة النهضة، مما كانت نتيجته أن تفككت بنيات نظام القرون الوسطى فانفتح الباب أمام انبثاق فكر جديد، وعاد "مركز السلطة الفكرية إلى تجربة الفرد وعقله". ومن هنا أصبح الإنسان الأوروبي ينظر إلى "المستقبل" على أنه شيء في يد الإنسان، على أنه في هذا العالم لا في عالم آخر، كما صار ينظر إلى "التقدم" على أنه ما سيأتي وليس "ما تقدم"، على أنه حركة متنامية انطلقت من "الماضي" السحيق متجهة بدون كلل ولا انقطاع إلى المستقبل. ومن هنا فلسفات التاريخ التي تحدثنا عنها قبل، والتي اتجهت إلى إعادة بناء تاريخ البشرية بالصورة التي تجعل التقدم الحاصل في الحاضر نتيجة لحركة التاريخ في الماضي ومقدمة لما سيحصل في المستقبل. وفي هذا السياق نفسه وكامتداد له يجب وضع النداءات التي تتردد أصداؤها اليوم من قبيل الدعوة إلى "تحرير المستقبل من الماضي وتحرير الماضي من المستقبل". وإذا كانت الحاجة تدعو فعلا إلى هذا النوع من التحرير، في كل مكان من عالم اليوم، فيجب أن لا تؤخذ هده الدعوة في صورتها المطلقة، بل لابد من التفكير فيها على ضوء المرحلة من التطور التي يوجد فيها هذا البلد أو ذاك. وذلك ما حاولنا فعله في الصفحات الماضية.

***

كان الحديث يدور لحد الآن حول الشق الأول من عنوان موضوعنا:"تحرير المستقبل من الماضي". ويبقى علينا أن نقول كلمة عن الشق الثاني:"تحرير الماضي من المستقبل". وفي اعتقادي أن هذا الشق الأخير من السؤال لا يمكن إعطاؤه معنى ملموسا يحرره من أسار اللغة وسحرها إلا في إطار الفهم الذي عرضناه بالنسبة للشق الأول: أعني بذلك ما قررناه من أن تحرير "المستقبل" من "الماضي" إنما يتم عبر إعادة بناء الماضي لا عبر إلغائه. وهنا يدخل الشق الثاني ("تحرير الماضي من المستقبل") كاحتياط منهجي بل كشرط في عملية البناء. إن ذلك يعني أنه يجب تجنب قراءة طموحاتنا أو مخاوفنا المستقبلية في الماضي، أعني إسقاطها عليه و من ثم "اكتشافها" فيه.
ليس ثمة من شك في أن الرجوع إلى الماضي إنما يكون حصرا بدافع من الحاضر. فالماضي لا يكتب ولا تعاد كتابته باستمرار إلا تحت ضغط حاجة الحاضر. هذا شيء لابد من الاعتراف به، إذ ليس في الإمكان كتابة "تاريخ وضعي"، حتى ولو كانت هذه "الكتابة" مقتصرة على جمع الوثائق وترتيبها. إن جمع الوثائق عملية تقوم على الاختيار، وترتيبها عبارة عن تقديم وتأخير وإبراز وحذف. وهذه أمور تتم دوما تحت ضغط الحاضر والقيم السائدة فيه، العلمية منها والأخلاقية والإيديولوجية. ومع ذلك فهناك فرق كبير بين التاريخ "العلمي"، الذي يكتب من أجل المعرفة والفهم فقط، فهم الماضي كما كان لا غير، أو من أجل إضفاء نوع من المعقولية على أحداثه ومساره، بهدف الاستعانة به في فهم الحاضر، من جهة، وبين التوظيف الإيديولوجي للماضي من جهة أخرى.
والتوظيف الإيديولوجي للتاريخ يتخذ في الوقت الراهن أشكالا شتى. فما يسمى اليوم بــ"الجماعات الأصولية"، التي تنتسب إلى ديانات مختلفة وأعراق متباينة تتخذ من الماضي ملجأ تضفي عليه كل رغبات الحاضر وآمال المستقبل. وقد كان هناك من "المنظرين" للنهضة والتقدم في العالم العربي من أسقط "المستقبل المأمول" على التاريخ العربي الذي حُمِّل من صنوف التقدم الفكري والحضاري العام، ما لا يحتمل. وواضح أن هذا النمط من الإسقاط لأحلام المستقبل على "حقائق" الماضي لا ينفع إلا في تزييف الوعي، وهو شيء مضر أشد الضرر بالقضية التي يريد خدمتها.
لكن، هناك ما هو أخطر من هذا لكون ضرره لا يقتصر على صاحبه، بل يطال الغير أيضا، بل ويهدد مستقبل الإنسانية جمعاء. نعني بذلك الهواجس التي نشرت باسم "البحث العلمي" و"الدراسات الاستراتيجية" والتي روجت لها وسائل الإعلام إلى الدرجة التي جعلت منها "قضية العصر". وهكذا، فبمجرد ما تأكد سقوط الاتحاد السوفيتي ارتفعت أصوات في الولايات المتحدة خاصة تبحث عن "عدو الغد" فوجدوه بسهولة في "الإسلام". وهكذا قام هنتنغتون Huntington ينظِّرُ لما دعاه بـ "صدام الحضارات". ولكي يبرر ادعاءه بأن "عدو الغد" للحضارة الغربية سيكون هو "الإسلام" –إلى جانب الكنفوشية- طلع علينا هذا الرجل بمفاهيم غريبة مثل"دينامية الحروب الحضارية" و "الدم في الحدود الإسلامية" الخ. ثم راح يقرأ تاريخ الإسلام على أنه تاريخ الصدام مع "الغرب"، وذلك إلى درجة أنه لم يتردد في وصف الحدود التاريخية بين الإسلام ودول أوروبا بأنها "حدود دموية"([14]). إن مثل هذه القراءة للماضي إنما تجد تبريرها في الخوف من فقدان المصالح والهيمنة في المستقبل، سواء كان هذا الخوف حقيقيا، أم كان مصطنعا بهدف تمرير مصالح معينة في الحاضر. وكما هو واضح فإن هذا النوع من رهن الماضي للمستقبل لا يقتصر ضرره على صاحبه بل هو يزرع الخوف من المستقبل ويدفع إلى الصدام في الحاضر.

***

لقد ركزنا في هذا التحليل على الجانب التاريخي في الإشكالية (problématique ) المطروحة، وبما أنها إشكالية محورها الأساسي، إن لم نقل الوحيد، هو "التقدم"، فلقد كان لابد من استحضار كل من كانط وهردر. فهذان الفيلسوفان هما أول من طرح فكرة التقدم في التاريخ الحديث فأسسا بذلك فلسفة التاريخ.
وبمناسبة الاحتفال هذه السنة بمرور ثمانية قرون على وفاة ابن رشد فقد رأينا من المناسب استحضاره هو كذلك، خصوصا وقد ورد اسمه في المساجلة التي جرت بين كانط وهردر حول الأساس الذي يجب أن يقوم عليه رصد التقدم على مدى تاريخ الإنسانية. ومن المقارنة بين المفكر الألماني والمفكر العربي طرحنا علاقة كل منها بمرجعيته، فأبرزنا كيف أن ابن رشد لم يكن في إمكانه، تاريخيا، تدشين قطيعة مع جمهورية أفلاطون، التي إنما عمد إلى "اختصار"ـها لعدم توفره على كتاب "السياسة" أرسطو. فقلد كان يعتبر أرسطو "المجدد والمتمم" للفلسفة، وبالتالي كان كل طموحه قراءة "سياسة" أفلاطون بواسطة أرسطو. لقد كان التقدم يتمثل عنده في الارتفاع بجدل أفلاطون إلى "برهان" أرسطو من جهة، والرجوع بـ"الأفلاطونية الحديثة" (الإسكندر الإفروديسي، وثامسطيوس، والفارابي وابن سينا) إلى أرسطو. وبما أن البنيات الاقتصادية والعلمية لم تكن قد عرفت في عصره أي تغيير يسمح بانبثاق فكرة "التقدم"، لا في ذهن الفيلسوف ولا في أفق المصلح الديني، فقد بقي "رجوعه إلى الأصول" سواء في الفلسفة أو في الدين، مقيدا بالنموذج الذي يمثل "التقدم" في الماضي: أرسطو من جهة، وعصر صحابة النبي من جهة أخرى. أما "التقدم" الذي يتجاوز أرسطو، والذي لم يكن ابن رشد يستبعده، فقد كان يبدو له في أفق بعيد، يحتاج إلى مئات السنين. ذلك ما عبر عنه بصدد إمكانية حصول "التقدم" في علم الفلك والطب، إذ لاحظ أنه لابد من أن يمر زمان طويل قبل أن يضيف المتأخر شيئا ذا بال إلى ما قرره الأقدمون في هذين العالمين. (يمكن أن نفسر ذلك بغياب الملاحظة المجهزة بالآلات الدقيقة).
أما كانط فقد أمكنه أن يرى "التقدم" يسير أمامه على رجليه، مسرعا الخطى، بفضل ما تحقق في أوروبا آنذاك من تقدم هائل على صعيد العلم وتطبيقاته.(خاصة علم نيوتن الذي كان الأساس الذي أرسى عليه كانط فلسفته). ليس هذا وحسب، بل إن التقدم السياسي الاجتماعي كان مشهدا يمشي على رجليه في فرنسا عصر الأنوار والثورة، تماما كما أن التقدم الصناعي كان يسابق نفسه في إنجلترا. لقد كانت أوروبا آنذاك تعيش "التقدم" في مختلف مكونات حاضرها وعلى مستوى آفاق مستقبلها. كانت ألمانيا آنذاك في مؤخر القافلة وكان فلاسفتها أكثر وعيا لحقيقة التغيير الذي كان يحصل لدى جيرانها في فرنسا وإنجلترا فرأوا فيه "التقدم" بعينه، فعاشوا على صعيد الحلم ما كان يعيشه هذان البلدان على صعيد الواقع، حسب تعبير ماركس. لقد عاشوا "التقدم" على صعيد الوعي الحالم. ولما لم يتبينوه في حاضر بلدهم بحثوا عنه في تاريخ أوربا ككل، لا بل في التاريخ العام كله الذي أصبح منذئذ خاضعا للمركزية الأوروبية.

يتبع
__________________



" كان بودي أن آتيكم ,, ولكن شوارعكم حمراء ,,

وأنا لا أملك إلا ثوبي الأبيض ",,

* * *

دعــهــم يتــقــاولــون

فـلــن يـخــرج الـبحــر

عــن صمته!!!

ياسمين غير متصل   الرد مع إقتباس