الموضوع: رحلة ابن فضلان
عرض مشاركة مفردة
غير مقروءة 29-09-2007, 06:49 PM   #4
*سهيل*اليماني*
العضو المميز لعام 2007
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2006
المشاركات: 1,786
إفتراضي



الصقالبة
فلما كنا من ملك الصقالبة وهو الذي قصدنا له على مسيرة يوم وليلة وجه لاستقبالنا الملوك الأربعة الذين تحت يده وإخوته وأولاده فاستقبلونا ومعهم الخبز واللحم والجاوزس وساروا معنا فلما صرنا منه على فرسخين تلقانا هو بنفسه فلما رآنا نزل فخر ساجداً شكراً لله جل وعز وكان في كمه دراهم فنثرها علينا ونصب لنا قباباً فنزلناها.

وكان وصولنا إليه يوم الأحد لاثنتي عشرة ليلة خلت من المحرم سنة عشر وثلاثمئة فكانت المسافة من الجرجانية إلى بلده سبعين يوماً فأقمنا يوم الأحد ويوم الأثنين ويوم الثلاثاء ويوم الأربعاء في القباب التي ضربت لنا حتى جمع الملوك والقواد وأهل بلده ليسمعوا قراءة الكتاب فلما كان يوم الخميس واجتمعوا نشرنا المطردين اللذين كانا معنا وأسرجنا الدابة بالسرج الموجه إليه وألبسناه السواد وعممناه وأخرجت كتاب الخليفة وقلت له: لا يجوز أ نجلس والكتاب يقرأ فقام على قدميه هو ومن حضر من وجوه أهل مملكته وهو رجل بدين بطين جداً وبدأت فقرأت صدر الكتاب فلما بلغت منه سلام عليك فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو قلت: رد على أمير المؤمنين السلام فرد وردوا جميعاً بأسرهم ولم يزل الترجمان يترجم لنا حرفاً حرفاً فلما استتممنا قراءته كبروا تكبيرة ارتجت لها الأرض.

ثم قرأت كتاب الوزير حامد بن العباس وهو قائم ثم أمرته بالجلوس فجلس عند قراءة كتاب نذير الحرمي فلما استتممته نثر أصحابه عليه الدراهم الكثيرة ثم أخرجت الهدايا من الطيب والثياب واللؤلؤ له ولامرأته فلم أزل أعرض عليه وعليها شيئاً شيئاً حتى فرغنا من ذلك ثم خلعت على امرأته بحضرة الناس وكانت جالسة إلى جنبه وهذه سنتهم وزيهم فلما خلعت عليها نثر النساء عليها الدراهم وانصرفنا.

فلما كان بعد ساعة وجه إلينا فدخلنا إليه وهو في قبته والملوك عن يمينه وأمرنا أن نجلس عن يساره وإذا أولاده جلوس بين يديه وهو وحده على سرير مغشى بالديباج الرومي فدعا بالمائدة فقدمت وعليه اللحم المشوي وحده فابتدأ هو فأخذ سكيناً وقطع لقمة وأكلها وثانية وثالثة ثم احتز قطعة دفعها إلى سوسن الرسول فلما تناولها جاءته مائدة صغيرة فجعلت بين يديه وكذلك الرسم لا يمد أحد يده إلى الأكل حتى يناوله الملك لقمة فساعة يتناولها قد جاءته مائدة ثم ناولني فجاءتني مائدة ثم قطع قطعة وناولها الملك الذي عن يمينه فجاءته مائدة ثم ناول الملك الثاني فجاءته مائدة ثم ناول الملك الرابع فجاءته مائدة ثم ناول أولاده فجاءتهم الموائد وأكلنا كل واحد من مائدته لا يشركه فيها أحد ولا يتناول من مائدة غيره شيئا فإذا فرغ من الطعام حمل كل واحد منهم ما بقي على مائدته إلى منزله فلما أكلنا دعا بشراب العسل وهم يسمونه السجو ليومه وليلته فشرب قدحاً ثم قام قائماً فقال: هذا سروري بمولاي أمير المؤمنين أطال الله بقاءه وقام الملوك الأربعة وأولاده لقيامه وقمنا نحن أيضاً حتى إذا فعل ذلك ثلاث مرات ثم انصرفنا من عنده.

وقد كان يخطب له على منبره قبل قدومي: اللهم وأصلح الملك يلطوار ملك بلغار فقلت أنا له: إن الله هو الملك ولا يسمى على المنبر بهذا الاسم غيره جل وعز وهذا مولاك أمير المؤمنين قد رضي لنفسه أن يقال على منابره في الشرق والغرب: اللهم أصلح عبدك وخليفتك جعفر الإمام المقتدر بالله أمير المؤمنين وكذا من كان قبله من آبائه الخلفاء وقد قال النبي صلى الله عليه وسسلم:" لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم فإنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله "فقال لي: فكيف يجوز أن يخطب لي قلت: باسمك واسم أبيك قال: إن أبي كان كافراً ولا أحب أن أذكر اسمه على المنبر وأنا أيضا فما أحب أن يذكر اسمي إذ كان الذي سماني به كافراً ولكن ما اسم مولاي أمير المؤمنين فقلت: جعفر قال: فيجوز أن أتسمى باسمه قلت: نعم قال: قد جعلت اسمي جعفرا واسم أبي عبد الله فتقدم إلى الخطيب بذلك ففعلت فكان يخطب له: اللهم وأصلح عبدك جعفر بن عبد الله أمير بلغار مولى أمير المؤمنين

ولما كان بعد قراءة الكتاب وإيصال الهدايا بثلاثة أيام بعث إلي وقد كان بلغه أمر الأربعة آلاف دينار وما كان من حيلة النصراني في تأخيرها وكان خبرها في الكتاب فلما دخلت إليه أمرني بالجلوس فجلست ورمى إلي كتاب أمير المؤمنين فقال: من جاء بهذا الكتاب قلت: أنا ثم رمى إلي كتاب الوزير فقال: وهذا أيضا قلت: أنا قال: فالمال الذي ذكر فيهما ما فعل به قلت: تعذر جمعه وضاق الوقت وخشينا فوت الدخول فتركناه ليلحق بنا فقال: إنما جئتم بأجمعكم وأنفق عليكم مولاي ما أنفق لحمل هذا المال إلي حتى أبني به حصناً يمنعني من اليهود الذين قد استعبدوني فأما الهدية فغلامي قد كان يحسن أن يجيء بها قلت: هو كذلك إلا أنا قد اجتهدنا فقال للترجمان: قل له أنا لا أعرف هؤلاء إنما أعرفك أنت وذلك أن هؤلاء قوم عجم ولو علم الأستاذ أيده الله أنهم يبلغون ما تبلغ ما بعث بك حتى تحفظ علي وتقرأ كتابي وتسمع جوابي ولست أطالب غيرك بدرهم فاخرج من المال فهو أصلح لك فانصرفت من بين يديه مذعوراً مغموماً وكان رجلاً له منظر وهيبة بدين عريض كأنما يتكلم من خابية فخرجت من عنده وجمعت أصحابي وعرفتهم ما جرى بيني وبينه وقلت: لهم من هذا حذرت.

وكان مؤذنه يثني الإقامة إذا أذن فقلت له: إن مولاك أمير المؤمنين يفرد في داره الإقامة فقال للمؤذن: اقبل ما يقوله لك ولا تخالفه فأقام المؤذن على ذلك أياماً وهو يسألني عن المال ويناظرني فيه وأنا أويسه منه وأحتج فيه فلما يئس منه تقدم إلى المؤذن أن يثني الإقامة ففعل وأراد بذلك أن يجعله طريقا إلى مناظرتي فلما سمعت تثنيته للإقامة نهيته وصحت عليه فعرف الملك فأحضرني وأحضر أصحابي فلما اجتمعنا قال الترجمان: قل له يعنيني ما يقول في مؤذنين افرد أحدهما وثنى الآخر ثم صلى كل واحد منهما بقوم أتجوز الصلاة أم لا قلت: الصلاة جائزة فقال: باختلاف أم بإجماع قلت: بإجماع قال: قل له فما يقول في رجل دفع إلى قوم مالا لا قوام ضعفى محاصرين مستعبدين فخانوه فقلت: هذا لا يجوز وهؤلاء قوم سوء قال: باختلاف أم بإجماع قلت: بإجماع فقال للترجمان: قل له: تعلم أن الخليفة أطال الله بقاءه لو بعث إلي جيشاً كان يقدر علي قلت: لا قال: فأمير خراسان قلت: لا قال: أليس لبعد المسافة وكثرة من بيننا من قبائل الكفار قلت: بلى قال: قل له فوالله إني لبمكاني البعيد الذي تراني فيه وإني لخائف من مولاي أمير المؤمنين وذلك أني أخاف أن يبلغه عني شيء يكرهه فيدعو علي فأهلك بمكاني وهو في مملكته وبيني وبينه البلدان الشاسعة وأنتم تأكلون خبزه وتلبسون ثيابه وترونه في كل وقت خنتموه في مقدار رسالة بعثكم بها إلي إلى قوم ضعفى وخنتم المسلمين لا أقبل منكم أمر ديني حتى يجيئني من ينصح لي فيما يقول فإذا جاءني إنسان بهذه الصورة قبلت منه فألجمنا وما أحرنا جواباً وانصرفنا من عنده.

قال: فكان بعد هذا القول يؤثرني ويقربني ويباعد أصحابي ويسميني أبا بكر الصديق.

ورأيت في بلده من العجائب ما لا أحصيها كثرةً من ذلك: أن أول ليلة بتناها في بلده رأيت قبل مغيب الشمس بساعة قياسية أفق السماء وقد احمرت احمراراً شديداً وسمعت في الجو أصواتاً شديدة وهمهمة عالية فرفعت رأسي فإذا غيم أحمر مثل النار قريب مني وإذا تلك الهمهمة والأصوات منه وإذا فيه أمثال الناس والدواب وإذا في أيدي الأشباح التي فيه تشبه الناس رماح وسيوف أتبينها وأتخيلها وإذا قطعة أخرى مثلها أرى فيها أيضاً رجالاً ودواب وسلاحاً فأقبلت هذه القطعة تحمل على هذه كما تحمل الكتيبة على الكتيبة ففزعنا من ذلك وأقبلنا على التضرع والدعاء وهم يضحكون منا ويتعجبون من فعلنا. قال: وكنا ننظر إلى القطعة تحمل على القطعة فتختلطان جميعاً ساعة ثم تفترقان فما زال الأمر كذلك ساعة من الليل ثم غابتا فسألنا الملك عن ذلك فزعم أن أجداده كانوا يقولون: إن هؤلاء من مؤمني الجن وكفارهم وهم يقتتلون في كل عشية وأنهم ما عدموا هذا مذ كانوا في كل ليلة.

قال: ودخلت أنا وخياط كان للملك من أهل بغداد قد وقع إلى تلك الناحية قبتي لنتحدث فتحدثنا بمقدار ما يقرأ إنسان أقل من نصف سبع ونحن ننتظر أذان العتمة فإذا بالأذان فخرجنا من القبة وقد طلع الفجر فقلت للمؤذن :أي شيء أذنت قال: أذان الفجر قلت: فالعشاء الآخرة قال: نصليها مع المغرب قلت: فالليل قال: كما ترى وقد كان أقصر من هذا إلا أنه قد أخذ في الطول وذكر أنه منذ شهر ما نام خوفا أن تفوته صلاة الغداة وذلك أن الإنسان يجعل القدر على النار وقت المغرب ثم يصلي الغداة وما آن لها أن تنضج.

قال: ورأيت النهار عندهم طويلاً جداً وإذا أنه يطول عندهم مدة من السنة ويقصر الليل ثم يطول الليل ويقصر النهار فلما كانت الليلة الثانية جلست خارج القبة وراقبت السماء فلم أر من الكواكب إلا عدداً يسيراً ظننت أنه نحو الخمسة عشر كوكباً متفرقة وإذا الشفق الأحمر الذي قبل المغرب لا يغيب بتةً وإذا الليل قليل الظلمة يعرف الرجل الرجل فيه من أكثر من غلوة سهم.
يتبع .
__________________

آخر تعديل بواسطة *سهيل*اليماني* ، 29-09-2007 الساعة 07:45 PM.
*سهيل*اليماني* غير متصل   الرد مع إقتباس