عرض مشاركة مفردة
غير مقروءة 08-02-2012, 11:09 PM   #18
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

(52)

من بين أربعة أعضاء لحلقة، كان اثنان أحدهما مهندس والآخر يحمل ماجستير في العلوم السياسية، كان مشهوداً لهما بالاستقامة والزهد والثقافة العالية. ذهب المهندس الى دولة خليجية وعاد منهياً عقده (بنفسه) بعد ثلاث سنوات، لما رأى في شركة أمريكية كانت تُشرف على تأهيل جيش ذلك البلد، فكانت تقيم الأبنية والمسابح والمطاعم لتهيئة مستلزمات الإشراف على تدريب الجيش، وفي كل مرة تبتكر طرح عطاءات، مثلاً لتدريب الحلاقين للجنود، وهذا يتطلب دورات باللغة فتطرح عطاء لمدرسة اللغة، وإقامة المتدربين والمدربين.. اكتشف من خلال ذلك المسلك كيف يتم اقتطاع العمولات من مُشرفٍ محلي صاحب نفوذ، لتصل الكلفة الى عشرة أضعاف الكلفة الحقيقية، فاستهوى المشهد المهندس لتتبع تلك الابتكارات في تضييع الأموال، ليطلب لقاءاً مع مسئول كبير، ليفضح تلك المظاهر من الفساد، وتبين له فيما بعد أن المسئول الذي طلب لقاءه يعرف التفاصيل! عندما عاد اشترى قطعة من الأرض وبنا بيتين أهدى أحدهما لصديقه، وافتتح مكتباً هندسياً، لم يحقق له سوى العيش بحياة أقل من المتوسطة.

أما حامل الماجستير في العلوم السياسية، فقد رفض العمل بعدة مواقع كانت من الممكن أن تجعل منه رجل دولة ذو مكانة ما.

كانا لا يتوانيان عن قول ما يحسان به في الندوات، أو اللقاءات العامة والخاصة، وكانا يُستدعيان للأجهزة الأمنية باستمرار، ويخرجان لقوة حجتهما دونما أن يتعرضا لعقوبة السجن.

في الجلسة الأولى لهما مع علوان، والذي تربطهما معه علاقة ودودة، كان يحس علوان بوعورة العلاقة الحزبية التي سيمضيانها معه. عندما ذكر علوان في مُستهل حديثه عن صعوبة الاتصال بالحزبيين المُراد إعادة ربطهم، وكيف أن نسبة ضئيلة استجابت لذلك، بادر صاحب العلوم السياسية بالسؤال: وكيف تفسر ما جرى رفيقنا؟

ـ قد تكون صعوبة الحياة، والخوف من الأجهزة الأمنية، وراء ذلك!
ـ لا أظن ذلك، فأمة قدمت خلال نصف قرن ما يقارب عشرة ملايين شهيد، لا تحسب ذلك الحساب، وأمة يتنزه كثيرٌ من شبابها عن مغريات الحياة، لا تزال المراهنة على نهوضها قائمة..
ـ كأني أستشعر أن لديك تفسيراً آخرا؟
ـ نعم، ليس هناك عيبٌ في المبادئ، وهذا واضحٌ، فلا أحد يكره الوحدة ولا أحد يكره الحرية، ولا أحد ينكر العدالة الاجتماعية... بل العيب يظهر في التطابق بين النظرية والسلوك... لا يشفع لك أن ترفع شعاراً بالوحدة وأنت على خلاف مع أخيك على فتح شباك بين بيتك وبيته، ولا تشفع لك رفع شعار الحرية وأنت تقمع أقرب الناس لك، ولا يشفع لك أن تطالب بالعدالة الاجتماعية والذين يحيطون بك وأنت على رأس الحكم، هم من أقاربك، هذا يخلق ارتكاس ونكوص لدى أتباعك أو من هم مُعجبون بفكرك...

ـ هل تعلم رفيق؟ أحياناً أشعر أن الثقافة الزائدة تكون عدوة للانضباط، وعلى مر التاريخ، إن من آمن بفكرة واحدة أو حتى عنوانها كانوا أكثر صرامة وانتشاراً من المثقفين، انظر قبائل المغول، والعثمانيين كونت إمبراطوريات، لم تقم على المناقشة والفكر، بل الانصياع وراء عنوان فكرة فقط...

تدخل المهندس وقال: لكن تلك فترات زمنية لم تخلق وراءها حضارة قابلة للاستمرار، بل كانت حقبة تنقضي...

شعر علوان، أن رفيقيه كان كمدعوين لوليمة، لم يتناولا منها لقمة واحدة، وتركا كوبا (الشاي) دون أن يشربا منه شيئاً...

(53)

في جلسات اللجنة التنظيمية العليا للإقليم، لم تأخذ المناقشات طابعاً فكرياً قوياً، ولا حتى إبداعياً في مجال الربط بين الدعاية الفكرية وأذرعها الإدارية كالنقابات والبلديات ومواطن تخزين الرأي العام...

كان أعضاء المجموعة القيادية يحملون معهم دفاتر دونوا عليها الحضور والاشتراكات المالية لتنظيماتهم وبعض الأشياء الأخرى، وما أكثرها..

كان من بين تلك الأشياء الأخرى، طرح تَغَيُب أحد المعلمين الذين يُشهد لهم بصلابتهم وحضورهم الاجتماعي القوي، وقد تغيب أكثر من ستة أشهر، وعند مناقشة وضعه تبين أنه (زعلان) لأن الحزب لم يؤمن لابنه البكر مقعداً في كلية الطب، ولم يستوعب أن ابنه لم يحصل على ستين درجة من مائة، وأن أقل معدل يحتاج الى ثمانين لكي يتنافس بين أبناء الحزبيين على مقاعد الطب الخمسة..

أخرج أحدهم مجموعة من الطلبات، كان من بينها رفض أحدهم لمبلغ خمسة عشر ألف دولار، لكي يفتح لنفسه مصلحة، لأن الأجهزة الأمنية، لم توافق على تعيينه في أي وظيفة حكومية، ولأن جواز سفره لا يزال محجوزاً منذ خمس سنوات، ولأن المبلغ لا يكفي (لفروغ يد: أي أخذ محل تجاري من مستأجره)..

اعترض وهيب على هذا الحجم من الطلبات التي أسماها سخيفة، وقال: علينا أن نطرد كل حزبيي (الفُم الواحد)، وعندما استفسر المسئول عن ذلك المصطلح، ابتسم وهيب ابتسامة قوية وشرح: النساء يغسلن غسيلهن ويقلن: غسلته (فُمين ولم ينظف)، فهؤلاء الحزبيون يحتاجون لأكثر من فم لتطهيرهم...

لم يرتح أي من الأعضاء لطرح وهيب، وبرروا أن الحياة قاسية، وما دام الحزب قادراً على مساعدتهم، لماذا نُصعب عليهم الأمور؟

رد وهيب: إن أي شخص لا يستطيع أن يحل قضاياه الشخصية، لا يستطيع الادعاء بأنه سيحل مشاكل الأمة، وأن هذا النمط من المساعدات سيفسد الحزب ويجعل أعضاءه مشاريع لبؤر فساد في المستقبل... وأضاف: خذوا مثال رفيقنا علوان جواز سفره محجوز منذ سبع سنوات، وقد عمل مزرعة وافتتح مكتباً للاستشارات والخدمات الزراعية، والآن يعمل لديه حوالي أربعين معظمهم من رفاقنا...

(54)

جاء وهيب بعد آخر اجتماع الى بيت علوان، وشاوره في مسألة خروجهم من التنظيم لعدم فائدته... لم يفاجأ علوان بتلك النزعة من طرف وهيب، وقد فكر بها هو سابقاً، لكنه سأله: أليس ذلك انشقاقاً؟

ـ قد يسمونه (هم) انشقاقاً، ولكن بنظري (أنا) هم المنشقون، فمن يحرف مبادئ الحزب ونظرياته، ليجعلها جامدة وراكدة ويقتات على هامش مستنقعها، لا يستحق أن يوصف بأنه رائد عمل ثوري..

ساد صمتٌ قليل بينهما...

سأل وهيب: هل سمعت بحياتك يا علوان أن حزباً يوعد الجماهير بقطع الكهرباء عنهم وانتشار البطالة وحفر الشوارع؟
ـ كلا..
ـ نعم، إن كل الأحزاب تعد بجعل (البحار والصحارى بساتين)، ولكن الفيصل في إنجاز ما تعد تلك الأحزاب، لا فيما تقول..

سننتشر بين صفوف الشعب، ونلتقط من آمنوا بما نؤمن، وسنجلس بين الفقراء والعمال والفلاحين، ونحاول الدخول للبلديات والنقابات، وسنبقى نحمل اسم الحزب نفسه، وإن سألنا أحدٌ عن بقية الحزب لا نجاوب، رغم أننا نعرف أن من بقي يتاجر بحزبيي (الفُم الواحد) سيصفوننا بأسوأ الأوصاف: منشقين، عملاء للمخابرات الخ..

ابتسم علوان، ففهم وهيب أنه وافقه..



__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس