عرض مشاركة مفردة
غير مقروءة 13-02-2010, 09:23 PM   #8
ياسمين
مشرفة Non-Arabic Forum واستراحة الخيمة
 
الصورة الرمزية لـ ياسمين
 
تاريخ التّسجيل: Apr 2008
الإقامة: المغرب
المشاركات: 2,102
Post

نحن نعي تماما زيف المشاكل التي تطرح في صيغة أيهما أسبق: الدجاجة أم البيضة؟ فالبيضة لا تتحول إلى دجاجة من تلقاء نفسها، بل لا بد من ظروف معينة للتفريخ. ومن هنا يمكن القول إن التجديد الثقافي –سوءا جعلناه سببا أو نتيجة- يحتاج إلى عملية من نوع "التفريخ": تفريخ البيضة، من داخلها طبعا، بتدخل ظروف خارجية ملائمة. ذلك هو مضمون الأطروحة التي ندافع عنها منذ ما يزيد عن عقدين من الزمن، أعني أطروحة "التجديد من الداخل"، فيما يخص الثقافة العربية.
إن "تحرير الحاضر وبالتالي المستقبل من الماضي" عبارة ستكون فارغة من المعنى إذا لم يفهم منها تحرير ثقافة الحاضر والمستقبل من ثقافة الماضي، ذلك أن الهيمنة التي يمارسها الماضي على الحاضر هي، أساسا، هيمنة تتم على صعيد الوعي. أما على صعيد الواقع فالمحراث الخشبي يختفي بمجرد حضور المحراث العصري، شريطة أن يكون هناك ما يكفي من المهارة لاستعماله، وهذه المهارة هي مسألة ثقافية أيضا. ومن المؤسف حقا –إذا جاز التأسف في هذا المجال- أن لا يكون التجديد الثقافي بمثل سهولة إحلال المحراث الصناعي محل المحراث الخشبي! إن التجديد الثقافي يتطلب عملية من نوع تحويل المحراث الخشبي نفسه ومن داخله إلى محراث عصري. وواضح أن العملية تبدو مستحيلة إذا نحن فهمنا من المحراث العصري المحراث المصنوع من الحديد، أعني "المحراث الأوروبي المعاصر"، فالخشب لا يمكن تحويله إلى حديد! وليس من المعقول المرور بنفس المراحل التي مر بها تطور المحراث من محراث القرون الوسطى إلى المحراث العصري الذي تجاوز الصناعي التقليدي إلى الإلكتروني؟
لا جدال في أنه عندما يتعلق الأمر بالتحديث الصناعي فالمطلوب هو الارتباط بالصناعة في مرحلتها الأخيرة من التطور، تماما مثلما تدرس العلوم (الرياضيات والفيزياء والطب الخ) في مدارسنا وجامعاتنا اليوم كما هي في آخر مرحلة من التقدم وصلتها؛ وسيكون من العبث تدريسها كما كانت في الماضي، القريب أو البعيد، أولا، ثم كما كانت بعد ذلك ! كلا. إن ماضي العلم، كما يقول باشلار، هو أخطاء العلم. وكذلك الشأن في الصناعة، وهي ليست شيئا آخر غير تطبيق العلم.
لكن الأمر ليس على هذه الشكل بالنسبة لما عدا العلم من شؤون الثقافة والفكر! وأكثر من ذلك يجب أن نعترف أن التقدم في مجال العلم لا يلزم عنه ضرورة تقدم مماثل في "ما عدا العلم من شؤون الفكر والثقافة". فكم من علماء كبار في الرياضيات أو الفيزياء أو البيولوجيا أو الطب يمتلكون وعيا يهيمن فيه الماضي على الحاضر هيمنة مطلقة. ومن هنا قناعتنا بأن الحل الوضعي positiviste حل فاشل. إن المطلوب هو الحل العقلاني الذي يرتكز لا على العقلانية الأداتية rationalisme instrumentale بل على العقلانية الموضوعية المعيارية rationalisme objectif , normatif. ذلك لأن المطلوب هو إحداث تغيير جوهري في طريقة التفكير والنظر إلى الأشياء، وهذا لا يتم بدون نقد ابيستيمولوجي ومعياري في نفس الوقت.
إن تحرير الحاضر، وبالتالي المستقبل، من الماضي لا يتم بمجرد الدعوة إلى الإلقاء بالماضي في "سلة المهملات". ذلك لأن الماضي الذي تدعو الحاجة إلى التحرر منه هو بالذات هذه "السلة من المهملات"! الماضي –والمقصود ثقافة الماضي- ليست بضاعة في صناديق، بل هي مجموعة من المفاهيم والتصورات تحضر في الوعي الحاضر بألف شكل. والغالب أنها لا تحضر فيه بنفس الشكل الذي كانت عليه في وعي أولئك الذين أنتجوها واستهلكوها كثقافة لحاضرهم. لنأخذ مثالا من الثقافة العربية. إن سيرة النبي محمد كما كتبها ابن هشام، نقلا وتلخيصا عن ابن إسحق الذي توفي حوالي سنة 150 هجرية، هي عبارة عن نص تاريخي يحكي وقائع تاريخية بلغة تتوخى الدقة وتتجنب التفخيم والتقديس. غير أن "السيرة النبوية" كما أعيدت كتابتها مرارا، نثرا ونظما، كانت تبتعد عن الخطاب التاريخي الوضعي –أو القريب من الوضعي- الذي كتبت به أول مرة لتتحول إلى نوع آخر من الخطاب يتضخم جانب اللاتاريخي فيه مع تقدم الزمن. والشي نفسه حصل مع "الحديث النبوي" الذي كان قليلا زمن النبي، ولكنه أخذ في التضخم بـ"الوضع" مع مرور الزمن، حتى أصبح يعد بمئات الآلاف. ومع أن كثيرا من الأئمة في الإسلام لا يقطعون إلا بصحة عدد محدود من الأحاديث لا يتجاوز بضع عشرات، فإن ما وظف "الحديث" ويوظف في الخطاب الديني المؤدلج –سواء على طريقة الخوارج الذي يمكن التعرف عليهم من خلال "الطالبان" في أفغانستان اليوم، أو على طريقة "معاوية" الذي يمكن التعريف به هو الآخر بالمقارنة مع كثير من الحكام في العالم العربي اليوم- هو أكثر من أن يحصى، وهو في جملته من قبيل "الموضوع"، كليا أو جزئيا. وليست هذه الظاهرة مقصورة على الإسلام، بل لقد عرفتها اليهودية من خلال التلموذ، إن لم يكن من خلال التوراة أيضا. كما عرفتها المسيحية كذلك. وإذا كانت المسيحية لم تؤثر في التراث الإسلامي كبير تأثير، فلقد كان لما عرف في الإسلام بـ "الإسرائيليات" دور كبير ورئيسي ليس فقط في تضخيم الحديث، بل أيضا في تفسيرالقرآن.
ولكي نعطي لمفهوم "التجديد من الداخل" معنى مشخصا في هذا المجال، مجال الفكر الديني، يمكن القول إنه لو تم استبعاد جميع الأحاديث التي لا تتعلق بالعبادات والتي لا سند لها في القرآن وليست من المتواتر([])، واستبعدنا كذلك جميع التأويلات لشؤون العقيدة، التي يرجع أصلها إلى "مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين"([]) بما في ذلك تأويلات الأشعري نفسه -مؤلف كتاب بهذا الاسم- وغيره ممن ينتمون إلى فرقته، لتَحَرَّر هذا المجال من تسعين بالمائة مما نسميه هنا بـ "الماضي".
ومن المفيد هنا استحضار ابن رشد مرة أخرى. فلم يكن مشروع هذا المفكر الكبير محصورا في شرح كتب أرسطو وتقريبها من أفهام الناس، بل لقد عمد أيضا إلى ما عبر عنه هو نفسه بـ "تصحيح عقائد شريعتنا مما داخلها من التغيير"([]). يقصد بذلك تأويلات المتكلمين الذين قال عنهم إنهم "أوقعوا الناس من قِبَل ذلك (=التأويل) في شنآن وتباغض وحروب، ومزقوا الشرع، وفرقوا الناس كل التفريق"([10]). وذلك لأنها تأويلات "ابتعدت عن مقصد الشرع عن الظاهر من العقائد التي قصد الشرع حمل الجمهور عليها"([11]). إن العقائد التي "قصد الشرع حمل الناس عليها"، إذا أخذت كما هي في ظاهر النصوص وحسب مقصد الشارع فقط، أي بعيدا عن التوظيف الإيديولوجي المباشر وغير المباشر، هي عقائد بسيطة ليس فيها تطرف و لا تشعب و لا تعقيد، هدفها غرس الفضيلة في النفوس. ومن هنا كانت لا تتعارض مع النظر العقلي ولا مع المعرفة الصحيحة التي يمكن اكتسابها بالعقل، سواء من طرف "المشاركين لنا في الملة أو المخالفين". كما يقول ابن رشد([12]).

يتبع
__________________



" كان بودي أن آتيكم ,, ولكن شوارعكم حمراء ,,

وأنا لا أملك إلا ثوبي الأبيض ",,

* * *

دعــهــم يتــقــاولــون

فـلــن يـخــرج الـبحــر

عــن صمته!!!

ياسمين غير متصل   الرد مع إقتباس