عرض مشاركة مفردة
غير مقروءة 13-02-2010, 09:34 PM   #10
ياسمين
مشرفة Non-Arabic Forum واستراحة الخيمة
 
الصورة الرمزية لـ ياسمين
 
تاريخ التّسجيل: Apr 2008
الإقامة: المغرب
المشاركات: 2,102
Post

ولعل القارئ يتساءل: لماذا هذا الاهتمام بألمانيا، وما الذي يجعلها تحضر بالبال عند كاتب عربي؟
الواقع أن النموذج الألماني قد فرض نفسه على الفكر العربي الحديث والمعاصر كمرآة يقرأ فيها المنظِّرُ العربي واقع العرب وطموحهم. كانت ألمانيا مجزأة فصاغت لنفسها نظرية في الوحدة القومية فحققت هذه الوحدة. وحلمت بـ"التقدم" الذي كان يجري بجوارها فلحقت الركب وحققت في بلدها التقدم نفسه وبخطى أعمق وأسرع.
والعالم العربي الذي استيقظ على مدافع نابليون في حملته على مصر، والذي قطف من الوعود التي تلقاها خلال الحرب العالمية الأولى خيبة مريرة، إذ لم يجن من التحالف فيها مع إنجلترا وفرنسا سوى تمزيقه إلى كيانات مصطنعة، في معظمها، ترزح تحت الهيمنة الاستعمارية، إن العالم العربي الذي وعى مفكروه وعيا عميقا هذه الوضعية "المأساوية" وجد عزاءه، على صعيد الحلم الإيديولوجي، في التجربة الألمانية. وهكذا صيغت "نظرية الوحدة العربية" على الأسس نفسها التي صيغت بها نظرية الوحدة في ألمانيا، وصار التقدم الذي حققته ألمانيا محركا للأمل في تحقيق تقدم مماثل. وقد تعزز هذا الأمل بنوع من القراءة للتاريخ شبيه بذلك الذي قام به كانط وهردر، مع مبالغة في إسقاط حلم المستقبل على وقائع الماضي ليخرج الفكر العربي من ذلك بشعار: "ما تحقق في الماضي يمكن تحقيقه في المستقبل"([15]).
لماذا لم ينجح العرب طوال المائة سنة الماضية في تحقيق حلمهم النهضوي ذاك؟ إنه مهما يكن من أهمية العوامل الداخلية فإن المرء لا يملك إلا أن يلاحظ أن النهضة العربية التي تجسدت في تجربة محمد علي في مصر، في العقود الأولى من القرن الماضي، لم تجهض من الداخل، بل إنما قُضي عليها بمدافع الاستعمار الإنجليزي. أما محاولة الشريف حسين والقوى الوطنية السورية تحقيق وحدة المشرق العربي في دولة واحدة، في مستهل هذا القرن، فقد قضت عليها عملية تقسيم غنائم الحرب العالمية الأولى بين إنجلترا وفرنسا. كما وأن التحالف الاستعماري بين فرنسا وإسبانيا قد قضى على الحركة الدستورية في المغرب في المهد، أوائل هذا القرن، كما قضى على الأمل الذي جسدته ثورة ابن عبد الكريم في التحرر من الاستعمار وبناء دولة حديثة. ومن الممكن النظر إلى تجربة جمال عبد الناصر من هذا المنظور نفسه: إن العدوان الثلاثي عام 1956 كان إنذارا "تاريخيا" توالت بعده إنذارات مماثلة، تنبه العرب، بواسطة أكثر الأسلحة العسكرية تطورا، إلى أن الوحدة والتقدم أمران يتناقضان مع مصالح "الدول الكبرى"، وأن هذه الأخيرة لن تترد في استعمال جميع الوسائل الخ.
هنا تنفصل التجربة العربية في مضمار السعي نحو "الوحدة والتقدم" عن التجربة الألمانية. إن دور العوامل الخارجية مختلف تماما هناك عنه هنا. لقد حققت ألمانيا حلمها فتم بذلك فيها "تحرير المستقبل من الماضي والماضي من المستقبل". أما في العالم العربي فقد بقيت قضية "الوحدة والتقدم فيه" هدفا دائما لمدافع وصواريخ الغرب الاستعماري. ولما قَمَعت الأطماع الاستعمارية والمصالح الإمبريالية محاولات القوى الوطنية العربية التي كانت تقودها البورجوازية الناشئة، قبل منتصف الخمسينات (محولاتها في تحقيق التقدم والوحدة)، جاء رد الفعل من شباب الطبقة الوسطى والفقيرة في الجيش فكان حكم العسكر الوطني. ولما ضرب هذا البديل من طرف القوى الاستعمارية أيضا جاء رد الفعل في صورة "صحوة إسلامية". فليس غريبا إذن أن يهرب بعض الناس إلى الماضي، الوطني منه والديني، يقرؤون فيه مستقبلهم، ثم يعيدون صنع هذا المستقبل في وعيهم بالصورة التي تمكنهم من مواصلة الحلم.

***
هل سيتغير الوضع في عصر ما يدعى الآن بـ "العولمة"؟
العولمة Globalisationتعني جعل الشيء على مستوى عالمي، أي نقله من المحدود المراقب إلى اللامحدود الذي ينأى عن كل مراقبة. والمحدود هنا هو أساسا الدولة الوطنية التي تتميز بحدود جغرافية وبمراقبة صارمة على مستوى تبادل البضائع مع الخارج، إضافة إلى حماية ما بداخلها من أي خطر أو تدخل أجنبي سواء تعلق الأمر بالاقتصاد أو بالسياسة أو بالثقافة. أما اللامحدود فالمقصود به العالم: الكرة الأرضية. وإذا نحن أخذنا بهذا التحديد لـ "العولمة" فإنه سيكون بالإمكان أن نستنتج أن الإشكالية التي شغلتنا طوال الصفحات الماضية تجد حلها -النظري- السريع والتلقائي في نظام العولمة هذا! ذلك أن إلغاء الدولة الوطنية (والثقافة الوطنية عنصر مركزي فيها) هو الطريق الملكية لتحرير الماضي من المستقبل، وتحرير المستقبل من الماضي.
لقد أظهرت الصفحات الماضية بما فيه الكفاية كيف أن الهاجس الوطني، هاجس "الوحدة والتقدم"، هو الذي يدفع الشعوب إلى إعادة بناء الماضي على صعيد الوعي بصورة تجعل تحقيق حلم المستقبل يأتي نتيجة طبيعية لـ"الصيرورة التاريخية"، لـ"منطق التاريخ"!
ولكن هل يمكن الوصول يوما إلى عولمة بهذا المعنى، أي إلى عالم يخلو من الشأن الوطني الذي يتحدد أساسا بالجغرافية والتاريخ والثقافة؟ أما أن تكون وسائل المواصلات والاتصال المعاصرة قد قلصت البعد الجغرافي، بعدَ المسافة، إلى نقطة تتجه نحو الصفر، فهذا ما نراه رأي العين! وأما أن يؤدي إلغاء الجغرافيا إلى التقليل من شأن التاريخ، فهذا ما يبدو منطقيا: فالتاريخ بدون جغرافيا لا يهم الوطنية في شيء، وإذا كف التاريخ عن أن يكون قوميا صار أركيولوجيا وانثروبولوجيا، لا غير! أما الثقافة فواضح أنها إذا تحررت من البعد الوطني فستكون بحق ثقافة سيبرانية CYBERCULTURE ([16])، (الفضاء الاعتباري!)
هل يتعلق الأمر بمجرد افتراضات! قد يكون. ولكن ما يجعل من هذه الافتراضات إحدى ممكنات المستقبل هو أنها اليوم موضوع حلم يختلف عن جميع الأحلام الإنسانية السابقة. لنستمع إلى هذا النموذج:
يقول كاتب معاصر: "هناك نوع آخر من الحالمين. يتعلق الأمر بأولئك الذي يصدرون عن رؤية ليبرالية للمجتمع السيبرنيتي الذي لا يأخذ في حسبانه إلا " الموانيت" netoyens »، مواطني "النيت" net ، أي شبكة الأنترنيت، هؤلاء الذين يجهلون علامات التعريف التقليدية التي هي الانتماء القومي والانتماء الإثني والدين والجنس والتجذر الجغرافي، والذين هم، بالخصوص، قادرين على الجمع بين أدوات الإقناع الأكثر تنوعا والأكثر شؤما، وضررا وغرابة، والمنتشرة في كل مكان. لقد نشر السيد جون بري بارلو M. John Perry Barlow عالِمُ المستقبليات المشهور وأحد المؤسسين لمؤسسة الحدود الإلكترونية لدافو Davos (…) بيانا سماه "بيان استقلال الفضاء السيبرنيتي"،يقول في مستهله : "يا حكومات العالم المصنع، أيها العمالقة المُتْعَبُون المصنوعون من اللحم والفولاذ، لقد جئتم من الفضاء السيبرنيتي،المأوى الجديد للفكر (…). نحن لا نرحب بكم عندنا. لستم أسيادا في هذا الفضاء الذي نجتمع فيه (…) إن مفاهيمكم القانونية عن المِلكية، والتعبير، والهوية، والحركة والسياق لا تنطبق علينا. إنها مؤسسة على المادة. ولا مادة هاهنا". نحن بصدد "إنشاء حضارة للروح في الفضاء السيبرنيتي" ستكون:"أكثر إنسانية وأكثر عدلا من العالم الذي شيدته من قبلُ حكوماتُكم". وفي هذا المنظور، من البديهي أن الدولة لن تعود مصدرا للسلطة ولا لشرعيتها، ولا للهوية"([17]).
هل يتعلق الأمر بنبوءة علمية أم بمجرد أَضغاث أحلام؟
لنقل إنه نوع من "الخيال العلمي" الذي يتحدث عن مستقبل غير منظور. وواضح أنه لابد قبل الوصول إليه من المرور عبر المستقبل المنظور. والمستقبل المنظور يبدأ من الحاضر. والحاضر، حاضرنا الراهن، يقدم كل يوم ألف دليل على أن "العولمة" محكومة، اليوم على الأقل، بمنطق الهيمنة التي تمارسها وتطمح لممارستها على الكرة الأرضية كلها "الدولة الكبرى" في عالم اليوم. وما دام الأمر كذلك، فإن رد الفعل لن يكون شيئا آخر غير التشبث بالجغرافيا والتاريخ، أعني: التمسك بالدولة الوطنية والدفاع عنها. وليس هناك من سلاح للدفاع عن الدولة الوطنية غير الثقافة والتاريخ، وبالتالي "الماضي" الذي يوظف في تدعيم الحاضر. أما ما نشاهده اليوم من "عودة" الديني و الإثني فهو رد فعل مؤقت. وليس من الممكن أن تتحقق "العولمة" من خلال هذين المظهرين. إن الدولة الوطنية الحديثة هي إحدى نتائج الثورة الصناعية في القرنين الماضيين؛ وبما أن العالم يدخل الآن – أو هو داخل فعلا-في عصر تكنولوجي جديد تماما، فإن السؤال الذي يفرض نفسه هو: كيف يمكن إعادة بناء الدولة الوطنية في عصر الثورة العلمية المعلوماتيةinformqtiaue؟ هذا سؤال حقيقي في نظرنا، وذلك لسبب بسيط وهو أن الدولة الداعية إلى "العولمة" تتصرف بمنطق الدولة القومية الساعية إلى الهيمنة! فكيف يمكن أن يتصور المرء استجابة حقيقة لهذه الدعوة غير تلك التي تنطلق من منطق الدولة القومية؟

يتبع
__________________



" كان بودي أن آتيكم ,, ولكن شوارعكم حمراء ,,

وأنا لا أملك إلا ثوبي الأبيض ",,

* * *

دعــهــم يتــقــاولــون

فـلــن يـخــرج الـبحــر

عــن صمته!!!

ياسمين غير متصل   الرد مع إقتباس