عرض مشاركة مفردة
غير مقروءة 27-11-2008, 04:27 PM   #2
محمد الحبشي
قـوس المـطر
 
الصورة الرمزية لـ محمد الحبشي
 
تاريخ التّسجيل: Apr 2006
الإقامة: بعيدا عن هنا
المشاركات: 3,527
إفتراضي


مذبحة كاناى



ينبغى لنا أن نتوقف هنا طويلا ، فقد كانت كاناى (ومعناها الكماشة) هى آخر خيط نجاة للرومان جمعوا فيها قوة هائلة تتألف من 85 إلى 100ألف مقاتل ، قام هانيبال بمناورات علي مدي أشهر جعلت العدو يحرك قوات جبارة الي كناي ، كان منيوسياس روفوس صغير السن وقام حنا بعل بمناورة فهم منها الضابط الروماني أنه صار يخاف المواجهة ويهرب وهكذا انطلت عليه مناورة حنا بعل الذي أظهر تقهقرا منهزما زيادة في اتقان حبكة الاستدراج الكبير الذي يعده لخصمه المغرور كان حنا بعل يقود جيشا من أربعين الفا بينما كان جيش عدوه يتجاوز المائة ألف نصفهم من المجندين حديثا واعتبر أنه أقوي جيش علي الاطلاق جمعته روما في تاريخها وزيادة في الخديعة قام الفرسان النوميديون (البربر) في خفة الأشباح بغارة صدتها القوات الرومانية بنجاح وتقهقر الفرسان البربر مظهرين انهزامهم فقرر عند ذاك القنصلان فارو وأميليوس مطاردة العدو المنهزم وتقهقر القائد الأمازيغي مهر بعل عبر نهر أوفيدوس هاربا وجيشا القنصلين بتعقبانه وضيق عليهما الخناق شيئا فشيئا فوق سهل كناي المكشوف و عندما التقي الجيشان أعطي حنا بعل إشارة البدء ووجد الرومانيون أنفسهم يقاتلون في ظروف مزدوجة السوء كانوا منكفئين بعضهم علي بعض محصورين الكتف الي الكتف بينما كان أعداؤهم يحومون حولهم بكامل حريتهم كانوا منهوكي القوي يواجهون عدوا متجدد القوة شديد البأس كان حنا بعل يستعمل من بعيد اشارات معينة بدخان منطلق من حزم أعشاب خاصة تطلق دخانا عاليا وكل عدد من هذه المشاعل الدخانية يعني أمرا معينا ولم تكد تحل الظهيرة حتي اختفي الفرسان فلم يبق فارس واحد بين مرتفعات كناي والمقر الصخري المرتفع لقيادة حنا بعل وبقيت في هذا الامتداد كتائب مشاة الرومانيين مكدس بعضها علي بعض في كتلة بشرية هائلة صماء وانطلق الفرسان النوميديون الخفاف كالبرق وعلي رأسهم قائدهم مهر بعل فسدوا ثغرة فرار العدو المنهزم الهارب الي النهر وكانت الأرض في سائر الاتجاهات ضد الرومان وتمعن حنا بعل في هذا الموج البشري وردد في نشوة وصية والده هملقار برقة: دع الأرض تقاتل عنك وترك قادة وحداته ينفذون حرفيا خطته وأبيد هذا الجيش الضخم .

كانت الخطة رغم بساطتها شديدة التعقيد . جيش هانيبال الرئيسى يواجه جيش الرومان بتشكيل قوس رأسه بإتجاه الرومان ، يقوم الرومان بالهجوم ونظرا لعدد الرومان الضخم سيتم الضغط على هذا القوس إلى الداخل على أن تظل الأطراف صامدة ، فيتم إبتلاع جيش الرومان فى نصف دائرة ، جنود هانيبال الإحتياط المختفون وراء التلال يطوقون الروم من المجنبات ، فرسان مهربال النوميديان يقومون بالإلتفات وتطويق الرومان من الخلف وبهذا يتم سحق كامل حيش روما وهو ما حدث تماما .










أراد الرومان تطبيق كماشة على جيش هانيبال فكان أن حدث العكس ، وتكتيك الكماشة هلك فيه الجيش النازي السادس بقيادة فون باولوس في الحرب العالمية الثانية حين أحكم إغلاق الطوق عليه ولولا وجود الطيران لأبيد في أيام معدودات وهو ما حصل للجيش الروماني الذى قتل منه قرابة 60 – 80 ألفا .

كانت كاناى كارثة مروعة لروما هلك فيها جيل كامل من خيرة شباب العاصمة الإمبراطورية وبعد هذه المعركة لم تقو روما على مواجهة هانيبال قط، الذى أصبح الرعب الأكبر المهدد لزوال روما ولذا لم ترحم روما قرطاج قط ولم تكن يوما رحيمة وما عرف التاريخ فاتحا أرحم من المسلمين .

بعد هذه المعركة بدأت روما تتعلم من هانيبال فن القتال وأن الحرب ليست شجاعة فقط بل علم استراتيجي تكتيكي يلعب فيه الذكاء والمناورة والخدعة والتربص والانتظار إلى آخر فنون الحرب .





وسقطت روما

أصبح الطريق ممهدا تماما أمام هانيبال لدخول روما ، إلا أننا فى هذه اللحظة أمام أحد أعجب القرارات وأكثرها غموضا فى التاريخ . إننا حتى يومنا هذا لا نعرف يقينا الاسباب الحقيقية وراء عدم إقدام هانيبال على دخول روما التى باتت بلا جيش وبلا روح .

نكاد نجتهد فى تقصى الأسباب لكن تظل الحقيقة غامضة دفينة فى صفحات التاريخ ودروبه العجيبه .

هناك أكثر من قصة قد تكشف واحدة منها سر هذا الغموض :

بعد كاناى ، هانيبال يطلب أن يستريح رجاله قائلا لهم : ينبغي علي الطهاة أن يعدوا وجبة شهية ويسخروا لها كل فنونهم وتقدم مصحوبة بالخمر الي الجنود من سائر الرتب فقد آن للجيش أن يستريح !
وهنا صاح العجوز مهر بعل الأمازيغي في غضب : حنا بعل ! اسمعنى جيدا، في خمسة أيام يستطيع الجيش أن يتناول هذه الوجبة في روما نفسها سيسبقك فرساني كالبرق اليها فيكتشف الرومانيون بحلولك بينهم من خلال هؤلاء الفرسان المردة قبل أن يعلموا بخروجك اليهم وتطلع حنا بعل مليا في وجه مساعده العجوز، ثم أجابه : هذا مما يسهل قوله لكن يجب إمعان التفكير في الأمر وتقليبه علي عدة وجوه، وقد يحتاج الي وقت طويل وهنا لم يتمالك مهر بعل نفسه فصاح فيه في غضب، وقال له قولته الخالدة: حنا بعل لقد حبتك الآلهة بنعم كثيرة، فأنت تعرف كيف تحرز النصر، ولكنك لا تعرف كيف تستخدمه وتستغله .

ويعقب مؤرخو سيرة حنا بعل فيجمعون علي أنه لو عمل برأي القائد الفارس الأمازيغي مهر بعل لتمكن من احتلال روما وتغيير مجري التاريخ .

إلى هنا تنتهى هذه القصة ، لكن المتأمل فيها يشك كثيرا فى صحتها وصدقها , فالملاحظ فى كل سيرة هانيبال وتاريخه إلى هذه اللحظة يرى عبقرية عسكرية تكون معها هذه القصة أشبه بسذاجة لا تليق ببطل كهذا .

قصة أخرى ، لم يتمكن هانيبال من إقتحام أسوار روما العالية المنيعة رغم حصاره لها . وهذه أكثر سذاجة فالمدن لا تحتمى بالأسوار بل بروح قتالية وعزيمة تحفزها على البقاء والمقاومة ، وفى كاناى كانت الفاجعة التى أذهلت العقول وبددت أى فرصة فى النجاة وباتت روما خاضعة ذليلة لسلطة المنتصر .

الرأى الأقرب صحة - فى رأيى ورأى البعض - قد يبدو واضحا جليا أمام أعيننا رغم بحثنا فى كل مكان آخر ، إنها كاناى . لقد كانت كاناى مذبحة بشعة بكل ما تحمله البشاعة من أحرف . بشعة حتى على جنرال حرب مثل هانيبال اعتاد رؤية الدماء طول حياته . فهو القائد ذو الأخلاق والصفات التى تكلمنا عنها ، يأبى أن تجتاح جنوده هذه المدينة العريقة فيأتون عليها بالحرق والسلب والدمار وهى سنة الحروب وقتها ولما لا وجزء كبير من جيشه من المرتزقة الذين لا يعرفون أخلاق الحرب وتواضع المنتصر . أراد هانيبال أن تخضع روما وتحقن دماءها بأن تأتى إليه سلما لا عنوة . لكن روما العنيدة لم تحن لحظة سقوطها بعد ، ولأنها لم تقم فى يوم وليلة فكان صعبا أن تسقط أيضا بين ضحية وعشاها .

لقد جاء لإذلال روما وجعلها تدفع الثمن غاليا من أرواح أبناءها ومن كرامتها ، وها هو ذا ينجح فى مسعاه فى كاناى . إذا فقد نال ثأره وكفى .






بداية النهاية



قطع الرومان كل الإمدادات من مؤن وطعام إلى جيش هانيبال و التى تمر عبر اراضيهم كما أن هانيبال يحارب الرومان على أرضهم حيث الغذاء الوفير ووفرة الجنود والمال . كما أثارت انتصارات هانيبال حقد وغيرة مجلس قرطاج وحزب التجار الضيق الأفق والمادى الحساب والقصير النظر المعدوم الرؤيا الذى رأى فى حرب هانيبال خطرا على سلطته كما رأى فى حربه على الرومان طموحا شخصيا فى حين رأى هانيبال هذه الحرب حرب وجود وبقاء على كل حال فقد ظل هانيبال ينتظر الإمدادات قرابة 5 أعوام دون جدوى .

كانت الأحداث تمر سريعا بدءا من العام 218 قبل الميلاد وحتى كاناى 216 ، لتتواصل سيطرته بعد ذلك على العديد من المقاطعات الرومانية حتى سنة 211 قبل الميلاد .

ووسط السقوط المروع لكل جنرالات روما ، كان هناك قائد رومانى شابّ يرقب الأحداث عن كثب ويفكر ويتأمل ويتعلم .

كان أبيه "سيبيو" أحد الجنرالات المهزومين وقد تسمى هذا القائد "بابليوس كورنيليوس سيبيو" والملقب بـ "سيبيو الإفريقى" نسبة لانتصاراته فى إفريقيا فيما بعد . تعلم "سيبيو" من غريمه هانيبال أن الهجوم إلى قلب العدو خير وسيلة للدفاع ، إصطحب "سيبيو" جيشا رومانيا ضخما وعبر البحر الخاضع فى الأصل للرومان متجها إلى قاعدة قرطاج فى إسبانيا "نيو قرطاج" واستولى عليها بعد أن دمرها بوحشية الرومان وحرق كل ما فيها ، بعدها كان وجهته إلى قلب الخطر نفسه .. قرطاج .

ويستمر الحقد والغيرة من قبل المجلس القرطاجى وعلى رأسهم "هانو" الذى رفض إستدعاء هانيبال للدفاع عن العاصمة بحجة أنهم ليسوا بحاجة إليه إلى جانب أنه المتسبب الأول فى هذه الكارثة . وكان هذا القرار بمثابة كارثة حيث أبيد جيش قرطاج المتمرس عن بكرة ابيه ولم يعد هناك مفر الآن سوى باستدعاء هانيبال للدفاع عن قرطاج .. معركة أخيرة من أجل البقاء .



__________________

محمد الحبشي غير متصل   الرد مع إقتباس