عرض مشاركة مفردة
غير مقروءة 07-07-2007, 03:10 PM   #105
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

(28)



عندما تتقلص الفرص أمام الناس، في الحصول على غذائهم، أو أمنهم أو رفاهيتهم، فإن قوة غريبة تنبت في أعماق النفس الفردية، تُستنبت لكي تقوم بدور المفتي و المحلل و المحرم، ليس وفق دراسات فقهية والرجوع الى مرجعيات دينية مختصة، بل بالاعتماد على الحاجات الضرورية، وقد تجد تلك الفتاوى استحسانا من الجماعات، التي تنظر إليها بابتسامة تتفهم الدوافع لتلك الفتاوى، لكن دون تعليق كثير ..

كان الأطفال، يصنعون فخاخا من أسلاك معدنية، توضع عليها بعض حبات قمح أو نوعا من حشرات أو ديدان، تدفن (الفخاخ) بالتراب في أمكنة تبيت بها طيور ضئيلة الحجم، وتبقى (الطعوم) واضحة أمام أعين الطيور، وما أن يحاول الطير التقاط حبة القمح أو الحشرة، حتى تلتف قطعة السلك المعدني المدفونة تحت التراب، على جسم الطير فتقتله. فيعود الأطفال في اليوم الثاني ليتفقدوا فخاخهم وما أمسكت من طيور، ويأخذونها لبيوتهم ويحضرون منها طعاما بعد إزالة الريش عنها .. وإن صدف أن انتقد أحدٌ مثل ذلك العمل، بحجة أن الطير ميت، والميت حرام ـ وهي صدف نادرة الحدوث ـ فإنه سيسمع من يقول له : ( صيد الفخ لخ ) ولا أحد يسأل ما هو (اللخ) ولكن سيفهم من تلك العبارة التي هي بمثابة (فتوى) أن أكل تلك الطيور (حلال) .. ولن يظهر من يطالب بصاحب القول أو المرجع الذي تم الاعتماد على هذا القول منها ..

وأحيانا كنت تجد من يقتل ضبعا ويجره معه للعتيقة ويقوم باقتطاع بعض أجزاءه، فيقول أن الجنب اليمين من الضبع هو (حلال) أكله، ولكن لن يرمي الجزء اليسار ! وكذلك يتم التعامل مع الثعالب وبنات آوى، فإن سأل أحد عن مدى مطابقة ذلك للشرع، كون تلك الحيوانات ذات ناب، وذات الناب حرام، فإنه سيجيب بأن الثعلب يأكل العنب والبطيخ فهو حلال!

وإن صدف أحدهم طائر (هدهد) أو (لقلق) أو حتى (نسر) كُسر جناح أي منهم، فإنه سرعان ما يأتي به ويأكله، متناسيا أنه من ذات المخالب .. ولا أظن أن المثل القائل : (من لا يعرف الصقر يشويه) آت من فراغ ..

كان خميس وأخوه يقتنيان كلاب من نوع (السلوقي) الذي يرتفع عن الكلب العادي بجسمه الضامر الممشوق، وأذنيه اللتين تنزلان على رقبته كأذني (السخلة) .. وكانت تلك الكلاب لا تنبح نهائيا، ولا تتحرش بمن يقترب منها، ولم يؤذها أحد، ليس لعدم رغبة العابثين بإيذائها، بل لأنها تحت حراسة خميس أو أبنائه، فقد تكون شروط العقد فيما بين تلك الحيوانات وأصحابها، أن تعاونه في الصيد، مقابل تقديم الحماية لها.. وعلى العموم، فإن حالات امتحان بنود العقد كانت قليلة، فحالات الصيد هي قليلة كما هي حالات إيذاء العابثين ..

كانت الكلاب تتبع خميس وأخاه في رحلات الصيد النادرة، وكان استعراض الرحلة لا يلفت انتباه أحد، فلم يتناقل أهل العتيقة، أخبار بطولة تلك الكلاب ولا ما أحرزته من صيد وفير .. ولم يسأل الناس من أين أتى خميس بهذا الصنف من الكلاب النادرة في وقتها ..

كان خميس يذهب الى (خربة) تبعد عن العتيقة، حوالي عشرة كيلومترات، و بها من الآبار المتروكة، والمهجورة، ونادرا ما يرتاد تلك الخربة من زوار أو حتى مالكيها .. فكانت الطيور (حمام بري) تنام في تلك الآبار، هاربة من الضواري من الطيور ك (الباشق) أو (العقاب) .. فكان خميس يضع شبكة تتدلى داخل البئر وعندما يذهب، يجمع أطراف الشبكة ويحمل ما علق بها من طيور..

في أحد الأيام، بينما خميس يقف على حافة البئر ليجمع أطراف الشبكة، انزلقت قدماه فسقط الى أسفل البئر، فاستقرت قدماه على قدمي جثة ميت تم رميه في البئر بعد قتله منذ مدة، وقد تحلل وبقي هيكله العظمي وبعض ملابسه عليه. فما أن داس خميس قدمي الميت حتى انتصب الميت بموازاة جسم خميس الساقط، فكان هول السقوط ومعانقة الجثة سببان كافيان لربط لسان خميس عدة أسابيع ولم يدل أهل العتيقة على ما أصاب خميس إلا كلابه التي عادت الى البلدة دون صاحبها ..

لم تكن تجارب أهل العتيقة تقتصر على الحيوانات والطيور، بل كانت تتعدى ذلك الى المملكة النباتية، ولكن تلك المهمة كانت تترك للنساء اللواتي كانت تجوب البراري باحثة عن نباتات، قررت التجارب المتكررة لأجيال سابقة أنها نباتات ذات فائدة، ويمكن أن تؤكل. فكان هناك نبات شوكي يسمى (العكوب) أو الكعوب (كما يسميه أهل العراق) .. يحفظ تحت الأرض نسيجا جذريا مكتنزا، تبحث عنه النسوة وتخلطه بالبصل والزيت وتعمل منه عدة أشكال من الفطائر أو الطبخات .. وهناك نبات يسمى (الجعدة) أو (الدنيدلة) له أوراق سميكة خضراء، تؤخذ وتشك في خيوط وتجفف، ثم تنقع عند الاستعمال ويتم سلقها ثم تخلط مع البيض والبصل والعدس وتطبخ بلبن قديم، بعدما يتم تكويرها وجعلها بحجم البيضة تقريبا .. وقد يخطئ بعض الأطفال فيتناولون تلك النباتات وهي طازجة، فيسمع القريب والبعيد صراخهم مستنجدين بمن يخلصهم من الآثار السيئة التي يتركها النبات على جذور ألسنتهم، فكأنما أمسك عفريت سام جذر لسان الطفل وأخذ يبرم به ويشده باتجاهات مختلفة وبنفس الوقت يلدغ به ويطعنه برؤوس مدببة حادة .. فعندها كنت تسمع قهقهة رجل مسن على حماقة الطفل في تناول هذا النبات السام .. لا أدري كيف تم ترويض هذا النبات ليحتل مكانة محترمة بين النباتات، تطلبه (الوحامى) والنفس (أي النساء في مرحلة الوحام والولادة)، وأي المختبرات التي قررت أن هذا النبات صالح للاستعمال في المطبخ .. وكم ضحية ماتت في مراحل التجريب .. كل تلك الأسئلة وغيرها، لا زالت ألغازا لم يتم كشفها ..

انتهى الجزء الأول من ذكريات قرية لم تعد موجودة .. سنلتقي في الجزء الثاني منها وهو (التشرنق) ..
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس