عرض مشاركة مفردة
غير مقروءة 31-10-2009, 07:09 PM   #57
جهراوي
كاتب مغوار
 
تاريخ التّسجيل: May 2006
المشاركات: 1,669
إفتراضي

اشتهرت مدينة أبو غريب العراقية بسجنها، وبحوادث التعذيب التي مارسها الاحتلال الأميركي ضد المواطنين العراقيين. ولكن أبو غريب لها شهرة أخرى حضارية، إذ هي صاحبة نوع من بذار القمح يحمل اسمها. وقد تعرض هذا النوع من البذار إلى حرب من نوع آخر، شنها ضده حاكم العراق الأميركي بول بريمر، وقد نجح حتى الآن في مهمته ..وإذا كان الإعلام الأميركي قد ركز طويلا على أهدافه الدم قراطية من وراء احتلاله للعراق، نافيا نواياه بالسعي للسيطرة على ثرواته، فإن الإجراءات العملية التي تم اتخاذها، والتي تمت صياغتها في قوانين رسمية، تنفي تلك الادعاءات وتؤكد أنه يسعى بشكل رسمي ودؤوب للسيطرة على ثروات العراق النفطية والزراعية، بل والسيطرة على ثروته الزراعية قبل النفطية.

لقد غادر بول بريمر بغداد بعد مراسيم نقل السيادة في شهر حزيران/ يونيو 2004، ولكنه ترك وراءه مائة قرار نافذ المفعول، وأخطر هذه القرارات المتعلقة بالزراعة يحمل الرقم 81، ويحمل عنوانا خادعا هو «براءة الاختراع، التصميم الصناعي، سرية المعلومات، الدوائر المغلقة، وأصناف النباتات». بينما مضمونه الحقيقي هو كيفية منع الفلاحين العراقيين من استعمال البذور العراقية، وفرض استعمال البذور الأميركية عليهم، حيث تشكل البذور أساس زراعة القمح والشعير والذرة والعدس في العراق.

ويقول الباحث البريطاني جيريمي سميث، الذي يصدر مجلة «البيئة» البريطانية، في مقالة مميزة له: «إن العراقيين تميزوا على الدوام، بتحسين الإنتاجية والتهجين الطبيعي للبذور». ويذكر أن «العراقيين جمعوا منذ السبعينات إرثهم الضخم في (البنك الوطني للبذور) الواقع في مدينة أبو غريب، وكان المزارعون العراقيون يستخدمون بذورهم المحلية بنسبة 97%، وينتجون من القمح ما يكفي حاجة العراق، وما يمكنهم من التصدير أيضا للخارج».

وما حدث فعليا على الأرض، هو أن الحرب عام 2003، وسنوات الحصار الطويلة التي سبقتها، أدت إلى تخريب الزراعة في العراق، وإلى تدمير البنك الوطني للبذور، وهو الذي يحتفظ بثروة لا تقدر بثمن، تجمعت لدى الفلاح العراقي على مر العصور.

استغل الاحتلال الأميركي هذا الواقع، وأصدر القانون رقم 81 الذي عرف باسم (قانون الملكية الفكرية)، وهو قانون يتناقض مع الدستور العراقي. الدستور العراقي يحرم الملكية الخاصة للمصادر البيولوجية (ومنها البذور)، بينما يسمح قانون بريمر بنظام حق الاحتكار للبذور، وهي هنا بذور تملكها شركات أميركية محددة، وتعمل بالتعاون مع البيت الأبيض من أجل احتكار توزيع البذور في العالم كله، وبخاصة في الدول الفقيرة في آسيا وأفريقيا، بحيث تصبح محتكرة بعد ذلك للزراعة في تلك الدول، ومنها العراق.

بادرت سلطات الاحتلال الأميركي، بعد إصدار القانون، وتعاونت معها حكومات الاحتلال المتعاقبة، إلى توزيع بذور الشركات الأميركية على المزارعين العراقيين بحجة عدم وجود بذور عراقية، وأن البذور الأميركية معدلة جينيا لتنتج كميات أكثر، ويكون إنتاجها أكثر جودة حسبما سوقوا، وكل ذلك بعد أن فرض على المزارعين العراقيين أن يوقعوا بما يفيد موافقتهم على تطبيق بنود القانون 81.

وينص هذا القانون في البنود المتعلقة بالملكية الفكرية، على حق أية جهة أو أي شخص، باحتكار أصناف نباتية جديدة يدعي أنه قام باكتشافها أو تطويرها. وهذا يعني أن هذه البذور الأميركية هي ملك للشركات التي أنتجتها، وأن على المزارع العراقي أن يدفع ثمنها عند استعمالها.

وقد جرى العرف بين الفلاحين أنهم يحتفظون عند بيع إنتاجهم بكمية من البذور للاستعمال في العام الزراعي المقبل، ولكنهم فوجئوا بأن القانون الذي وقعوا على بنوده يمنعهم من ذلك، فالبذور بعد أن تستعمل، تختلط بآثار بذور أخرى، ولا تبقى بصفاتها الأولى، ويمكن للشركات هنا أن تحاكم أي جهة تريد، بأنها «تغش» في استعمال بذورها، وتفرض عليها العقوبات، أو الامتناع عن استعمال البذور. وهذا يعني أن على الفلاح أن يشتري البذور من الشركات الأميركية كل سنة، وسنة بعد سنة، لكي يضمن أنه يستعمل بذورا نقية، لم تختلط ببذور أخرى، ولا يخضع عند استعمالها للمساءلة والعقاب. ويؤدي هذا في النهاية أن تصبح الشركات الأميركية محتكرة للبذور، ومحتكرة لزراعة القمح أيضا، وهي التي تقرر من يبقى من الفلاحين مؤهلا للعمل (البيوت المالية الكبيرة)، وهي التي تقرر مَن مِن الفلاحين أصبح قليل الإنتاجية، ولا بد أن يتوقف عن العمل بالتالي (الملاك الأفراد والبيوت المالية الصغيرة).

إن الولايات المتحدة تقوم بفرض هذا القانون، والتحكم بالزراعة بالتالي، في بلاد عديدة. ولكنها تقوم بما هو أكثر من ذلك، من خلال اتفاقات التجارة الثنائية، مع دول عديدة، بلغت حتى الآن ثماني دول من دول الجنوب، منها كمبوديا وسيريلانكا وأفغانستان، وها هي تحاول الأمر نفسه مع العراق. الأمر الذي يعني أن السيطرة الأميركية على اقتصاد العراق، يمكن لها أن تبقى حتى لو تم الانسحاب الأميركي من العراق، فمواصلة شراء البذور أمر مفروض، والتمرد على الشراء، واستعمال بذور أخرى، يصبح عرضة للملاحقات والمحاكمات.

لقد واجهت هذه السياسة الأميركية معارضة من الباحثين العراقيين، ومن القادة العالميين العاملين من أجل الحفاظ على البيئة، ولكن أهم معارضة ووجهت بها هذه السياسة الأميركية جاءت من منظمة (الفاو)، أي من منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة من مقرها في روما.

تعمل منظمة (الفاو) في العراق في مشروع يسعى إلى التعاون مع الخبرات المحلية، لإعادة بناء قطاع مصرفي لإنتاج البذور، مع زيادة الكمية وتحسين النوعية. ويعتزم المشروع تعويض معدات البحوث، ومكائن الإنتاج المتضررة، مع إعادة تشييد المباني التي تهدمت، وسيسمح ذلك باستئناف نشاط المختبرات التي كانت قائمة وتعمل بكفاءة عالية. وتخطط المنظمة أيضا للمساعدة في صياغة سياسات قطرية لقطاع البذور، واستصدار قانون جديد لتنظيم القطاع. ويؤكد خبير في المنظمة أن جميع المزارعين العراقيين سيستفيدون من مشروع المنظمة لإعادة تأهيل البذور العراقية. ويؤكد الخبير أيضا ضرورة «صون بذور المحاصيل التي طورها المزارعون العراقيون على مدى قرون من العمل على تحسينها».

والجدير بالذكر أن إنجاز هذه المهمة ممكن وبسرعة، من خلال الاستعانة بمؤسسة تدعى (مركز الأبحاث الزراعية للمناطق الجافة ـ carda)، موجودة في مدينة حلب في سوريا، وتحتفظ بعينات كاملة من البذور العراقية.
إن العراق ومن خلال الأرقام، يتعرض إلى كارثة غذائية، يمكن معالجتها جزئيا بالبذور الأميركية، ولكن معالجتها جذريا تحتاج إلى قرار سياسي جريء بالعودة إلى تنمية البذور العراقية.

إن استعمال البذور العراقية في الزراعة، مهمة توازي إنهاء الاحتلال الأميركي. هكذا يقول الباحث البريطاني جيريمي سميث.

جهراوي غير متصل   الرد مع إقتباس