عرض مشاركة مفردة
غير مقروءة 28-07-2006, 02:22 PM   #39
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

(15)

لو جلس أربعة مقامرين ، كل واحد يملك مائة دينار ، فإن كل حالات اللعب لن تجعل مجموع ما معهم أكثر من أربعمائة دينار ، فقد يكسبها الأول أو الثاني أو أي واحد ، لكنها لن تزيد . تلك الحالة نجدها في أي نوع من الصداقات فإن كان كل الأصدقاء ، يتصفوا بقلة إمكانياتهم الثقافية ، فلن تتطور مهارات وممتلكات أي واحد منهم من المعلومات الثقافية ..

في العتيقة ، لم يكن للنقد قيمة ، بل كان للعرق ( الجهد ) قيمة ، ولا زلت أذكر أن الليرة الذهبية ( العصملية ) كانت تقل بقيمتها عن الدينار المحلي ، لا تستغربوا ، فاقتناء الذهب ، دائما يأتي على هامش فائض المدخرات ، فكانت كل البلاد تعاني من ذلك .. فلا قيمة للذهب ، أو له قيمة ولكن لا أحد يدرجه مع أولوياته ..

كان أكثر من خمس و تسعين بالمائة من أهل العتيقة يعملون بالفلاحة ، وكان همهم كما ذكرنا يقتصر على تلبية الحاجات الأساسية من سكن وقوت ولبس و الحفاظ على أنفسهم من الانقراض . لم يكن الادخار يشغل بالهم ، وكذلك النقد أو ما يدل عليه . فكانوا يتبادلون بالمبادلة بقرة بنصف طن ( قنطارين ) من الحنطة ، عروس بقطعة أرض ، قليل من الحلو الذي يحن إليه الأطفال بدل بيضة دجاج ، وهكذا ..

لم يكن في البلدة الكثير من الحرف و المهن ، كان بها مجموعة من الدكاكين ، ومحل لصناعة (الفروات ) ، ومحل للبيطار لتبديل حذوات الخيل ، أو علاجها ، ومحل لصناعة ( الجلالات ) أي ما يوضع على ظهر البهائم ، ومحل لصناعة (الهريط ) وهو عمل كانت تطبخ به عظام (الجمال ) ليستخرج منها محلول غروي يشبه ( الجلي ) .. يفطر عليه بعض الناس .. ومحل لتصليح (البوابير) كان صاحبه يسمى ب (السمكري ) لتصليح مشاعل الطبخ و الفوانيس و غيرها ، ومحل لخياطة ملابس الرجال ، ولم يكن يحتاج لفنون كثيرة ، فهي ملابس أشبه بالأسطوانات ، مع بعض الإضافات البسيطة ..

أما الدكاكين فكانت في البداية لتجار قدموا من ( الشام ) أو ( القدس ) ، ثم تركوا القرية لعدم ملائمتها لطموحاتهم . ثم أصبحت ملكيتها لأبناء العتيقة ، كان فصالها و شكل ديكورها الداخلي موحدا ، فكان لها مصطبة خارج بابها ، بارتفاع نصف متر ، يجلس عليها الرجال في أوقات فراغهم وما أكثرها ، يتحادثون ويشهدون على عمليات المبايعة القليلة . ويلعبون (المنقلة ) وهي قطعة خشب جوز سميكة محفور بها عدة حفر ، توضع الحصى في كل حفرة وفق نظام يعرفوه ، أو يلعبون ( القطار ) أو ( الياس وديس ) وهي لعبة يرسمونها على سطح بثلاث مربعات داخل بعضها البعض ، ثم يوصلون خطوطا تخترق أواسط الأضلاع ، فيضعون تسع قطع من الحصى لكل لاعب تختلف ألوانها من لاعب لآخر ، ويحركون الحصى بالتناوب حتى يكسب أحدهما .

أما داخل الدكان ، فكنت تصادف مصطبة أخرى عند الباب ، يتمدد عليها البائع لندرة المشترين ، ويفصل المصطبة عن جسم الدكان ( مد ) خشبي يوضع فوقه الميزان ، ومن خارج هذا المد تجد (شوالات ) غير ممتلئة بها من أصناف الحبوب ، وهي عادة تزيد في محتوياتها ، ولا تقل ، لأن ما بداخلها كان نتيجة دفع الزبائن أثمانا لما اشتروه .. وعندما تمتلئ تلك العبوات يأخذها صاحب الدكان الى مخزن أو يبيعها لتجار الحبوب ..

أما البضائع التي كانت تكون باستمرار في الدكاكين ، فكانت السكر والشاي والصابون و بعض أدوات المطابخ كالمنخل و السكين و ملاقط الغسيل وليف الحمَام ، وحجار النيلة وأبر الخياطة ، والملح والفلفل و القهوة والهال و أنواع من الحلويات التي انقرضت ك ( القوم والقنبز والكعكبان و الراحة والفيصلية ) ، وكانت توضع في ( مرتبانات لها أغطية تصف على الرفوف ..وأحيانا تجد بعض الفواكه كالعنب والتين الخ ..

إن أجواء كهذه كانت تجمع الذباب ، فكنت تلاحظ شريطا لاصقا يتدلى من أعلى الدكان لارتفاع أعلى من الرأس بقليل ، وقد التصق به الذباب حتى أصبح لونه أسودا أو لونا (ذبابيا ) ..

هناك نوع غريب من علاقات البيع والشراء كنت لا أفهمه كثيرا ، حيث كان يتجول في البلدة ، أناس غرباء ، يركب أحدهم حصانا أو حمارا ، ويبيعون الزيت و الأقمشة أو يصيحون ( مبيض .. مبيض ) وكان من يصيح يهتم بمعالجة أواني الطبخ النحاسية التي مر عليها وقت دون تبييض . كما كان أحدهم يصيح ( رشادي .. غوازي ) .. وكان يبيع الصيغة ( أي الحلي الذهبية والفضية ) .

الأمر الذي كنت أستغربه ، هو أن من يبيع الصيغة ، كيف كان يأتمن على ماله وحليه في الطريق من قطاع الطرق ، فاكتشفت في وقت متأخر ، أنه كان يودع حصانه عند أحد أهالي العتيقة ويأتي بالباص ، مقابل شيء يتفق عليه .

كما كان هناك قسم من الغجر يأتون في مواسم الحصاد ، ويبيعون أدوات يحتاجها الفلاحون في أعمالهم كالغرابيل و الكرابيل و المقاطف و المذاري والشواعيب ، وغيرها من تلك السلع ..

وقد رأيتهم كيف يصنعون الغرابيل (جمع غربال ) والكرابيل ( جمع كربال ) وغيرها .. فبعد أن يعالجوا الخشب بالماء والحرارة ويجعلون منه دائرة . يكونوا قد قاموا باستغلال أي جلد حيوان يلقوه ، سواء كان ميتا أو مذبوحا ، فيدبغوه ، ويجففوه تحت الشمس مثبتينه بأعواد ترتفع قليلا عن الأرض ، ثم يقددون الجلد ليعملوا منه خيطانا جلدية يدخلوها في ثقوب (الطارة ) الخشبية ويشدونها فتصبح جاهزة .. وكانوا يفهموا بالقياسات ، فتلك للقمح وتلك للشعير وتلك للحمص الخ ..

لم يكن أحد يفكر بتطوير عمله ، فالتقنيات محدودة ، والعادات المهنية قد تكون ممتدة الى آلاف السنين السابقة ، فقد يكون الشكل الذي رأيناه في منتصف القرن العشرين يشابه لحد كبير ما كان سائدا في العصر العباسي ، وقد يكون صدر الدولة العباسي يتفوق على ما شاهدناه في منتصف القرن العشرين في العتيقة .. حيث لم تكن علاقات الإنتاج التي كانت بوادرها قد تكونت في عصر المعتصم وما تلاه ، فقد كان هناك شيخ لكل مهنة يحتكم الممتهنون عنده في حالات الخلاف .. وتطورت حركة القرامطة لتفرز شكلا له طابع سياسي في بعض الأحيان .. أما في العتيقة ، فكان الاجتهاد هو الحكم في الخلافات ، فيبدو أن الناس لم يكونوا مطلعين على تجارب من قبلهم أو من يجاورهم من التجمعات السكانية الأكثر تقدما ..
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس