عرض مشاركة مفردة
غير مقروءة 30-01-2008, 03:19 AM   #1
عبدالله العقيل
عضو جديد
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2008
المشاركات: 17
إفتراضي (بائعة الخبز) أول مشاركة لي في خيمة الثقافة والأدب ،وتوكلت على الله

بائعة الخبز

استيقظت ظهر ذلك اليوم.

ترى من يعنف نافذة غرفتي ويضربها ، فألقيت نظرة منها فرأيت صديقي في الفناء يحمل في فمه حزمة من المسامير ، ويقبض في يده مطرقة يعالج بها نافذتي ، خيل إلي أن الطرق كان يسقط على رأسي في المنام ، وتمددت إلى السماء أنفض عني كسل النوم ، ويدي تحك رأسي ، ثم توجهت إليه منتقدا ما أحدثه من ضجيج ، وربما أقلق رقاد الجيران ، فيشكونه ونقع في حرج كبير معهم ، فقلت له :



- قد اصطفيت هذه الباكورة لتصلح النافذة؟ أي أحمق يقدم على ما تصنع ؟



فضحك علي حتى كاد يبلع مسمارا من كثرة ما ضحك وليته فعل ، وقال:



- أيها الكسول !! ألا تعلم كم الساعة الآن ،لقد انتصف النهار!



لم أهتم له ، فأنا على دراية بما سيأول إليه حديثنا ، وسيضيع نهاري معه في نقاش عقيم ، ولن استمتع بما أتيت لأجله ، فكفاني جدل ومنطق مع شخص ينبري ويأنس لمثل هذه الأمور.

تركته لحاله ، ولبست أفخر الهندام ، ورشقت نفسي بأطيب العطور ، ووقفت أمام المرآة أحسن لف القرافه حول عنقي ، واحسن سدل الياقة والأكمام.

وخرجت منطلقا أزور العاصمة العجوز صنعاء.



***



استقبلتني صنعاء وكأن شيخ التاريخ سار معها ، فلما غفت في حقبة من أحقابه ، أوقع عليها عباءته ، ونسي أن يوقظها ، فسار يكمل رحلته ، وما زالت نائمة مطمئنة تحت عباءته في سبات عميق.



***



مررت بشارع قديم ، يغمره الناس ، وتكتنفه المحلات ، وقد ضاق الشارع بالباعة المتجولين ، وقد افترشوا بسطهم وفرشاتهم عليه ، يعرضون بضاعتهم للمارة ، ورأيت الرجال ينادون على بضاعتهم ، والنساء يمهرن مالديهن بأحسن المهر وأفضل المديح ، وقد ارتفعت أصواتهم حين رأوني وبدأوا يشيرون إلي ، ويدعونني إلى بضاعتهم.

أقبل علي رجلا يركض ممسكا عمامته ، ويقبض على جنبيته ، وشدني إليه ، قائلا في همس :



- لدي من الصاغة ما يعجبك!



- شكرا ، لا أرغب في الشراء.



رفع أمامي سلسلة ذهبية ، ودللها بين يديه بعناية وقال :



- إنها خير ما لدي ، فهي أفضل هدية قد تقدمها لزوجتك.



نظرت إليها مليا وقلت :



- أهي من الذهب؟



انبسطت أساريره ، وارتفع شنبه الكثيف إلى الأعلى بإبتسامة وقال :



- لا أبيع إلا الذهب!



تركني أدور في بضاعته وأتفحصها ، وأمال بظهره إلى الخلف واتكأ على عجيزته ، وضم يديه على جنبيته في وثوق.

حينها جاءه صوت يصفعه على رقبته.



- لا تخدع الرجل!



نظرنا إلى مصدر الصوت ، كانت فتاة في العشرين من عمرها تضع على وجهها لثام أظهر عينين سيالتين متقدتين بالذكاء ، وتجلس بين سلال تحمل الخبز ، وقد نهضت من فوق فرشتها ، وتقدمت إلينا.



- أرني السلسلة!



فقال الرجل في غيظ :



- وما شأنك؟!



فقالت:



- أريد أن أشتريها ، أرني السلسلة!



ناولها ما معه على مضض ، فألقت عليها نظرة ، وقالت :



- إنها مزيفة ، ولا تستحق إلا أن ترمى!



فانبرى الرجل في دفاع وهو يصيح :



- وما أدراك يا أنت؟ إنها من الذهب الخالص.



جمعت السلسلة وصفعتها في يده ، وعقبت راجعة إلى فرشتها ، وهي تقول :



- لا تختبر إمرأة في الذهب والحلي.



وحين استقرت في مكانها ، قالت لي :



- يا أستاذ إنه لمن المؤسف أن تعود إلى زوجتك بهذه الهدية المزيفة ، فأولى بك ألا تشتريها .



أدركني الرجل ، وقال :



- دعك منها فهي تحادني في رزقي!



فابتسمت ، وقلت له :



- أبائعة الخبز تحاد بائع الذهب في رزقه ، والله إنها صادقة!



فقال في كبرياء مصطنع :



- بين البائع والشاري يفتح الله.



فقلت :



- فتح الله عليك.



تركته ،ومضيت إلى بائعة الخبز ، أحببت أن أشكرها وأسدي إليها ما أسدت ، وأرد لها معروفها ، فلحظتني أتقدم إليها ، فالتفتت إلى ما بين يديها من الخبز تعيد تصفيفه وترتيبه على السلال ، وتغطيه في رعاية واهتمام.



- آنستي!



فقالت دون أن تنظر إلي :



- هل من خدمة أقدمها لك؟



رفعت راحة يدي متعففا وقلت لها :



- لا ،،، شكرا ، إنما أحببت أن أشكرك على إنقاذك لي من هذا الرجل.



عادت تحفظ الخبز في السلال ، فحككت وراء أذني من الحرج وتطلعت قريبا ، وقلت لها



- هل يوجد بالقرب هنا مطعم؟



أشارت إلى داخل الشارع ، وقالت :



- يوجد هناك مطعم على الجهة اليمنى! هل ترغب في شراء الخبز؟!



- لا ،،، شكرا.



رفعت رأسها وحملقت في وقد انعقد حاجبيها في استنكار ، وقالت :



- كيف ذلك ؟ ألست ذاهب إلى المطعم؟!



- نعم نعم



- إذن لابد أن تشتري الخبز!



- لا ،،، شكرا ، لا أريد ، أفضل الأكل في المطعم.



- كيف ذلك ؟ لابد وأن تشتري الخبز؟! كيف ستأكل؟



- أرجوكي ، بصراحة ،أنا لا أحب كل ما هو مكشوف في الشارع!



لم تلح أمام إصراري ، بل أشاحت وجهها إلى سلال الخبز التي بين يديها وقالت غاضبة



- هكذا إذن ،،، كما تريد!



***



حينما بلغت المطعم رأيته مكتظا لا يخلو من الزحام والحركة ،ويتلاطم الزبائن فيه بالأكتاف.

وكانت النار عاصفة تحت قدر عظيم مملوء باللحم والمرق لا تفتر ، وقد غطى فحيح لهيبها

الأصوات المتصاعدة ، والطلبات المتتابعة ، كان كل شئ فوق النار حتى الأطباق التي تقدم للزبائن عبارة عن فخار قد أسود لونه وتوهج بحمرة قانية من شدة اللهب ، وما زال يقلب فوق عذاب النار ، وكانت القدر الضخمة تملأ زاوية كاملة ، ويعلو فوقها طباخ يتراقص وهو يدير ملعقة عملاقة في فم القدر ، وأخذ يسلط المرق في الأطباق بسرعة فائقة.



***



أنتظرت حتى جاء دوري للجلوس ، وطلبت ما يمكن أن يكون في القدر ، فأنا لم أرى شيئا آخر غير القدر ، وجاء بالطبق رجل قصير القامة ، مشوه الخلقة ، دميم الوجه ، يسعى بين الزحام ، ورمى بالطبق الملتهب أمامي ، فأطلت النظر إليه وإلى الطبق ، ونفسي منشقة تسترجع منظره في نفور ، وربما فهم مغزاي ، فصاح :



- أستأكلني ، أم ستأكل الطعام؟



رسمت إبتسامة أمامه لعلها تصرفه عني ، إلا أنه لم يأبه بها ، وأكمل دورته حول الأخرين يقذف بالأطباق أمامهم.

كان الطبق متوقد كالجمرة الحمراء ، فكشفت لي سر استبدال الطاولات الخشبية بمنصات فولاذية ، فلا يمكن للخشب أن يصمد أمام هذا الطبق الجهنمي.

واحترت كيف أقرب الطبق إلي ، فلا يوجد على الطاولة إلا إبريق ماء قد صب من الحديد ، وترشح معدنه بحبات ندى باردة ، وبإلتفاتة حولي رأيت الزبائن قدعرفوا الحل أخيرا ، فهم يسكبون الماء على المنصة الفولاذية ، وحول الطبق ، فيبرد قليلا ، فيسهل لمسه ، فاتبعت طريقتهم ، ففار البخار من تحت الطبق وكأني حداد في مرجل ، فكل ما في المطعم ممتنع سهل فذكرت البلاغة كم هي سهلة ممتنعة.

أشرت للدميم بأن يأتي ، فجاء إلي ، وقد تربص وهو حذر مني ، وقد زاد وجهه دمامة بعلامة إستفهامية مستنكرة ، وخبط بيده المنصة وعلق رأسه فوق كتفه ، في إنتظار ما أطلب ، فقلت له وكأني أرجوه :



- أين الخبز؟



- ألم تشتري الخبز؟



- أشتريه؟!! ألا تقدموه؟!!



- لا يا حضرة ، نحن نقدم المرق فقط ، وأنت عليك الخبز!



وتركني ومضى ، وقد ألمح لكبير القدر بلمحة من وجهه البشع ، فضحك الآخر ضحكة هيستيرية ، وأدار القدر بملعقته في كيد ، وشاركوه كل الحاضرين بالضحك ، ومن لم يسعه الضحك ، أدار وجهه إلي وأخذ يشبرني بناظريه شزرا ، عجبت كيف لمطعم يبيع المرق ولا يبيع الخبز ، فما هي المعادلة المتفق عليها هنا؟ وما هي نظرية هذا المطعم الغبي؟

وصرت في حرج كبير ، رغم أني موقن أن ما طلبته أمر طبيعي ، ولا يتحرج منه أحد

وثارت أفكاري على منطقهم السمج الغبي ، وعلى المطعم والقائمين عليه ، ودار في خاطري بائعة الخبز وكيف كان سعيها لمساعدتي ، فناديت الدميم مرة أخرى ، وفي رأسي مكر أخبئه له ، فأقبل علي مستاءا :



- لا حول ولا قوة إلا بالله ، لا يوجد ملاعق ، ولا نشتري الخبز للزبائن!!!



وتركني ومضى ، اللعنة!!! ، لقد قرأ أفكاري قبل أن أبوح بها ، وأفسد كل مخططاتي ذلك الدميم البشع، ونظرت إلى الطبق مرة أخرى ، أفكر كيف أعالجه ، حتى الطعام أصبح مستحيلا ، فهو لا يصلح بأن أرشف منه ، وأنا أرى المرق يغلي ويتدافع داخله ، وما فائدة المرق إذا برد وجمد ، فضرره حينها أكثر من نفعه.



رفعت رأسي وقد فقدت الأمل ، فرأيت الفتاة تسير أمام المطعم تحمل سلة الخبز ، دفعت الكرسي للوراء، وقفزت خارج المطعم ، وقد اعترض طريقي الدميم يصيح طلبا للحساب ، فدفعته عني ، وأنا أصيح :



- سأعود!سأعود!



أنطلفت خلفها



- يا آنسة ، لو سمحتي ، دقيقة من فضلك!



لم تعرني انتباها ، وأخذت تجد السير قدما.



- لو سمحتي!



فقالت في شدة :



- ماذا تريد؟!



- خبز!





فقالت مستنكرة :



- ماذا؟



غير معقول ، ماذا حدث للناس ، فصحت بها راجيا :



- خبز !! أريد خبزا!!



- لماذا لم تأخذه من قبل؟!



يا إلهي ، ونظرت خلفي وقد شارف المطعم على الإختفاء ، ولحقت بها مرة أخرى ، وأخرجت النقود من جيبي



- أريد خبزا وهاك النقود!!



دفعت المال من أمام وجهها ، وقد زادها تصرفي حنقا وغضبا وشدة:



- أتحسب أني أريد مالك؟ من تظن نفسك؟!!!



أكملت السير وهي ترفع رأسها غير آبهة في شموخ ، لم أعد أحتمل ، أمسكت ذراعها ، وشددتها إلي بقوة أستوقفها ، وانهارت سلة الخبز من فوق رأسها أرضا ، فألتفتت إلي غاضبة:



- أنظر ماذا فعلت؟ ماذا تريد مني؟



نظرت إلى عينيها الصاخبتين بالأنفة والكبرياء ، فهدأت عريكتي ، سحبت يدي وأفلت ذراعها ، ووقفت مطأطأ رأسي إلى الأرض ، فلم أعد احتمل النظر إلى عينيها ، ولم أعد أعرف ماذا أقول؟ أو ماذا أريد؟ كتلميذ مهذب يقف أمام أستاذه.



تمت
__________________

أتيت من هنا

آخر تعديل بواسطة السيد عبد الرازق ، 01-02-2008 الساعة 01:39 AM.
عبدالله العقيل غير متصل   الرد مع إقتباس