عرض مشاركة مفردة
غير مقروءة 12-09-2010, 01:45 PM   #22
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي


الدروس الأمريكية

في عام 1835 أصدر الأرستقراطي الفرنسي (ألكسي دي توكفيل 1805ـ 1859) كتابه ( الديمقراطية في أمريكا). وهو الذي سافر الى أمريكا وهو في عمر 25 عاماً، لوضع دراسة عن السجون الأمريكية، ولكنه فوجئ بمادة مختلفة للدراسة، جعلته يضع مؤلفه (الديمقراطية في أمريكا) من مجلدين وهو من أهم الكتب التي صدرت عن هذا الموضوع في الحقبة نفسها، ليعود بإصدار مجلده الثاني في عام 1940.

(1)

كتب توكفيل (( من بين الأشياء الغريبة التي لفتت انتباهي، خلال إقامتي في الولايات المتحدة، لم يستوقفني شيءٌ بهذه القوة أكثر من المساواة العامة في الظروف القائمة بين الناس)).

كان توكفيل يخاطب الأوروبيين وبالذات الفرنسيين، يدعوهم لدفن الماضي، وإدراك الفرص والمخاطر التي طرحتها المساواة الاقتصادية على السياسة والمجتمع المدني على حد سواء.

كان ضعف الدولة (في أمريكا) أول شيء يستوقف توكفيل. فجاء تفسيره ليرسي أول التمييزات بين أمريكا ( المجتمع القوي، والدولة الضعيفة)، وأوروبا (الدولة القوية، والمجتمع الضعيف)، وهو التمييز الذي ترك تأثيراً فاعلاً في التنظير المعاصر. إن الافتقار الى التراث الإقطاعي الراسخ، وما صاحبه من غياب ( للنظام القديم)، وندرة المدن الكبيرة وما ترتب عليه من تزايد أهمية من تزايد أهمية المجالس المحلية، والغياب النسبي للبيروقراطية، وهو غياب مقرون بتقاليد اللامركزية، والعزلة الجغرافية، وغياب جيش كبير دائم، كل هذه العوامل، لا سيما عندما تُضَمُ الى المساواة الاجتماعية الواسعة، وثقافة الاعتماد على الذات، ومستوى منخفض من صراعات الطبقات، تُبين لماذا لم يكن لأمريكا تقاليد الدولة القوية التي ميزت التاريخ الأوروبي.

(لا شيء يستوقف المسافر الأوروبي في الولايات المتحدة أكثر ما نسميه نحن بالحكومة، أو الإدارة. ثمة قوانين مدونة في أمريكا، ويرى المرء التنفيذ اليومي لها، ولكن على الرغم من تحرك كل شيء بانتظام، لا يمكن اكتشاف المحرك في أي مكان. واليد التي توجه الماكنة الاجتماعية غير مرئية)*1

(2)

يذكر مؤلف الكتاب الذي بين يدينا (جون إهرنبرغ)، الكيفية التي يستدعي فيها (توكفيل) نماذجه لإحداث التأثير في نفسية من يخاطبهم.

فهو في حديثه عن نمط الإدارة والدور الشعبي في الولايات المتحدة يقول (كان تدخل الناس في الشؤون العامة، والتصويت الحر على الضرائب، ومسئولية ممثلي السلطة، والحرية الشخصية، والقضاء المستند الى هيئة المحلفين في حين أن الأشياء كانت تمارس بشكل منقوص في أوروبا وبالذات في إنجلترا الجديدة فالقوانين هي من وضع الدولة)*2

في إنجلترا الجديدة، تشكلت دوائر البلديات (Township) تشكلاً تاما ومؤكداً منذ بواكير العام (1650). وكانت استقلالية البلدات النواة التي تلتقي حولها المصالح والأهواء والحقوق والواجبات وتتشبث به. فهي وفرت سَعَةً في نشاط الحياة السياسية الحقيقية بشقيها الديمقراطي والجمهوري. وكانت المستعمرات ما زالت تعترف بسيادة البلد الأم.

عينت البلدات في إنجلترا الجديدة حكامها على اختلاف أنواعهم، وخمنت مقدار ما عندها، وفرضت على نفسها الضرائب. وفي أي بلدة من بلدات إنجلترا، لم يجرِ قانون التمثيل؛ بل كانت شؤون المجتمع تبحث في الساحات العامة كما في أثينا.

ليلاحظ القارئ الكريم، أن توكفيل شأنه شأن (مونتسيكيو) من المعجبين بصدارة إنجلترا في التجربة الديمقراطية، ولكنه زاد عليه في دمجها أو دمج ما يبشر به من أفكار مع التجربة الأمريكية.

وعندما يعرج (توكفيل) على التجربة الفرنسية ـ رغم ثورتها ـ فإنه يصفها بالسلطة (الممركزة حول الثورة) والتي لن تلاءم الحياة في أمريكا ( مهما تكن السلطة المركزية متنورة وبارعة، فلا يمكنها بنفسها أن تستوعب كل تفصيلات حياة أمة عظيمة. فمثل هذه اليقظة تتجاوز قوى البشر. فقوة هذه السلطة تخذلها عندما يُراد تحريك المجتمع على نحو عميق، أو تسريع تقدمه، وإذا ما صار تعاون المواطنين الخصوصيين أمراً ضروريا لتعزيز تدابيرها يفتضح سر عجزها)*3

وعلى الجانب الأمريكي فإن النقاط المناقضة للنزعة المركزية للدولة الفرنسية تتمثل في المؤسسات المحلية القوية المدعومة بثقافة (فردانية) ومحلية ضيقة تذود عن الحرية من خلال تقييد سلطة الدولة، وجعل الناس أقرب الى أداء مهمات القيادة في مواطنهم.

إن الحكم الذاتي المحلي كان ملائما تماما للثقافة الأمريكية المتمثلة في الاعتماد على الذات؛ فكل شخص هو أفضل من يُقَيم ما يخصه، وهو أنسب شخص يوفر لنفسه ما يحتاجه. أما البلدة والمقاطعة فإنهما كفيلان بالعناية بمصالحهما الخاصة، والدولة تمارس الحكم، لكنها لا تنفذ القوانين.

(3)

(يشكل الأمريكيون، من كل الأعمار، والمراتب والميول، تجمعات طوعية. فهم لا يملكون فقط الشركات التجارية والصناعية، التي يساهم فيها الجميع، بل يشكلون أيضاً تجمعات من ألف نوع ونوع؛ دينية وأخلاقية، جادة وعابثة، جليلة أو مقيدة، صغيرة أو ضخمة. والأمريكيون يكونون التجمعات للاستمتاع، ولتأسيس المدار، وبناء النُزُل، وإقامة الكنائس، ونشر الكتب، وإرسال المبشرين الى جهات المعمورة، وبهذه الطريقة أسسوا المستشفيات والسجون والمدارس... إنهم يؤلفون جمعية طوعية، ترأس ما تدير بعكس فرنسا التي ترأس فيها الحكومة أي مشروع)*4

يقول توكفيل ( أن المجتمع المدني سيخدم التحرر عن طريق التخفيف من وطأة تأثير أي مصلحة مفردة، وإضعاف الأغلبية، والاحتراس من تجاوزات الديمقراطية نفسها التي حفزت على ظهور هذه الأمور)*5

وعندما يشير بطرف خفي لخطورة التسلط تحت أي مسمى فإن توكفيل يؤكد (لا أرى ثمة وقاية ضد الطغيان الأشد إثارة للسخط؛ وربما يمكن لفئة صغيرة أو فرد واحد، يطوق نفسه بحصانة لا يطولها القانون، أن يقمع شعباً كبيراً)*6

(4)

بعد هذا التغزل الطويل من توكفيل بالنموذج الأمريكي، فإنه يتساءل متخوفاً من مصير هذا النموذج فيقول: ( عندما تكون الظروف الاجتماعية متساوية، يميل كل إنسان للعيش بمعزل عن الآخرين، ويتمحور حول نفسه متناسياً البشر حوله)*7

هو يريد توازناً دقيقاً ومدروساً، ولا يحقق هذا التوازن إلا مجتمع مدني حر وقوي ومؤمن بما يفعل، لأنه حسب رأيه (فالديمقراطية لا تجعل من كل إنسان متنكراً لأسلافه فحسب، بل هي تطمس أصله وتفصل معاصريه عنه. وترده فريسة لذاته ووحيداً. وتهدد في الأخير بحبسه في عزلة مشاعره القلبية الفردية)

وهنا يتوجه بنصيحة لتواصل الفرد بالمجموع لتعزيز قيمته أمام الآخرين (قد يكسبك إنجازٌ رائع رضا الناس بضربة واحدة؛ ولكن لكي تحظى بحب واحترام السكان الذين يحيون حولك، سيتوجب عليك أن تثابر في تقديم الخدمات الصغيرة المتصلة، والأعمال الخيرية الخفية، وأن تتطبع على العطف الدائم، وأن تكون معروفاً بالنزاهة)

وفي التحذير من تغول الدولة ( كلما حلت السلطة محل التجمعات الطوعية، فقد الأفراد فكرة الاتحاد معاً، وزادت حاجتهم الى مساعدة الدولة)


هوامش من تهميش المؤلف
*1ـ Alexis de Tocqueville, Democracy in America, 2 vols. (New York: Random House, 1990, vol1 صفحة 70.
*2ـ صفحة 39 من المجلد الأول.
*3ـ صفحة 90 من المجلد الأول.
*4ـ صفحة 106 من المجلد الثاني.
*5ـ صفحة 191 من المجلد الأول.
*6ـ صفحة 195 من المجلد الأول.
*7ـ صفحة 256 من المجلد الأول.
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس