عرض مشاركة مفردة
غير مقروءة 12-10-2009, 02:27 PM   #6
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

الجماعة المسيحية

(1)

كان مسعى (أوغسطين) لتحويل بابوية القيصر (Caesaropapism)، التي دمجت الدولة والكنيسة، الى أداة لخدمة الله، بات بحاجة الى تطوير دقيق بسبب اقتران تنصير الإمبراطورية بتفككها، ودمج الدولة بالكنيسة من أجل طاعة الله، ذلك أن تنصير الإمبراطورية صاحب تفتتها.

وإن التطور البطيء للعالم المسيحي بوصفه عالم (الدولة ـ الكنيسة) الموحد شجع مفكري العصور الوسطى الأوائل على تطوير بنية شاملة تتيح لهم أن يستوعبوا ضمن حدودها علاقات الشعوب والميادين المختلفة. إن تقسيم العمل بين (البنية الكنسية) الرسمية و(البنية المدنية) للإمبراطورية والمملكة وَسَمَ مسارات السلطة المتحولة بين ميادين يكمل بعضها بعضا في أمة مسيحية واحدة.

(2)

انتقل الى العصور الوسطى، ما كان أُسس في العهود الأولى للإمبراطورية المسيحية على يد (Gelasius جيلاسيوس الأول) وأطلق عليه نظرية (السيفين Two Swords) والتي قصد بهما (سيف الله) و (سيف الدولة أو الملك) وهما مندمجان متوحدان لا يفصل بينهما شيء، وليس هناك سلطة أعلى من سلطة، وإذا تصادم السيفان فالكلمة العليا لسيف الرب (الكنيسة).

وكانت السياسة والاقتصاد والفن والعلوم والأخلاق، تتبع مباشرة لسلطة الكنيسة، وكان تنصيب شارلمان سنة 800م [ وهو المعاصر لهرون الرشيد] على يدي البابا (ليو Leo) يرمز الى صهر الكنيسة والدولة معا.

ملحوظة: ليلاحظ القارئ الكريم، أن الأوروبيين كانوا يستشعرون أو يستلهمون ما كان يجري في الشرق (الإسلامي) ويحاولوا تقليده من باب المناددة.

(3)

تعاظم دور البابا شيئاً فشيئاً، فشرع انفصاله عن جسم دولة (أي دولة) وأصبح ينصب الملوك والأمراء، وأصبح يبارك الجماعات المدنية ويتصل بإدارات الجامعات والمصالح التجارية وكبار الفلاحين أو كبار مالكي الأراضي، حتى تكونت في البلاد الأوروبية ممالك عديدة أو الأجدر أن تسمى بالإمارات أو الإقطاعيات، وأصبح البابا وكأنه الإقطاعي الأكبر. وكان المقصود بذلك هو إنشاء إمبراطورية مسيحية كبرى مكونة من دويلات يباركها البابا ويكون مقاتلو تلك الدويلات في خدمة أهداف البابا.

حدث تململٌ صامت في منظمات المجتمع المدني، (جامعات مؤسسات، مصانع) وكان الغرض من ذلك التململ هو الحصول على استقلالية معينة من سلطة الكنيسة، أو بالذات عن (البابا)، فتم اقتراح انتخاب المجلس البابوي الذي ينتخب البابا، وحدث خلاف على من يحق له تعيين أعضاء المجلس البابوي، فكان الأمراء أو الملوك يسمون مندوبيهم ليكونوا قادرين على تنصيب البابا أو عزله، فانتبه البابا لذلك ومنع تسمية المندوبين من الحكام السياسيين.

الى أن جاء الصدام بين إمبراطور ألمانيا (هنري) والبابا (غريغوري)، حيث اتهم البابا الإمبراطور بأنه ملك متمرد على سلطة البابا وبالتالي فهو متمرد على الله، وتحالف الأمراء (الملوك الأضعف) مع البابا ضد الإمبراطور (هنري)، مما حدا بإمبراطور ألمانيا ببعث رسالة شهيرة يعزل فيها البابا جاء فيها: (من هنري الملك، لا بالاغتصاب، بل بقضاء إلهي ورع، الى (هلدبراند) الذي لم يعد الآن البابا، بل راهب مزيف).

ورغم أن أساقفة (ألمانيا) اصطفوا الى جانب ملكهم، إلا أن الانتصار أخيرا كان لصالح البابا الذي هددهم بالحرمان المسيحي، فذهب الإمبراطور (هنري) حافي القدمين وبقي يقف بالثلج ثلاثة أيام في كانون الثاني/يناير من عام 1077م، قرب مقر البابا في (كانوسا Canossa) فجاء غفران البابا له.

إن انتصار البابا (غريغوري) هيأ لروما أن تكون سيدة العالم المسيحي كله، وترعى المجتمع المدني من زاوية نظر بابوية بحتة.

(4)

لقد حدث انعطافٌ في القرن الثالث عشر، عندما وصل (توما الأكويني) الى باريس عام 1245م، حيث كانت العلوم العربية والفلسفة اليونانية المعاد صياغتها على أيدي الفلاسفة العرب، الى العودة لقراءة ما كتبه اليونانيون ونقله (العرب). فافترض (توما الأكويني) أن الكنيسة لا تختلف عن المؤسسات الدنيوية الأخرى، فالكنيسة ومنظمات المجتمع المدني الأخرى هي وحدات تشكل نظاما أخلاقيا يوحده حب الله وتسير على هدي هدفها المشترك في تحقيق الخلاص.

وقد استخلص (توما الأكويني) أنه ما دام يجب على العقل الإنساني ألا ينظم فقط الأشياء التي يستعملها البشر، وإنما أيضا البشر أنفسهم. ويضرب مثلا لموضوع استخدام العقل فيقول: أن الإنسان يتبع مسارا من البسيط الى المعقد: ففي حال الأشياء التي يستعملها البشر عندما يبني هؤلاء مثلا، سفينة من (الخشب)، وبيتا من (الخشب والحجر) وفي حال البشر أنفسهم عندما تنظم مثلا، مجموعة منهم لتكون جماعة معينة والجماعات لها تراتب ومنازل، وأن المرتبة العليا هي مرتبة المدينة التي تنظم الكثير من حاجات البشر.

(5)

الكل له الأسبقية الطبيعية على الأجزاء، حتى لو كانت الأجزاء أسبق من حيث النشوء. لكن الأفراد من البشر مرتبطون بالمدينة ككل مثلما ترتبط أعضاء الإنسان بالإنسان.

والآن لو حدث أن أحدهم كان غير قادر على المشاركة في المجتمع المدني بسبب من انحراف يعانيه، فإنه يكون أسوأ من الإنسان، بل هو وحش إن جاز التعبير. ومن جهة أخرى، إذا كان غير محتاج لأي كان وهو مكتف بذاته إذا جاز التعبير، فإنه أفضل من الإنسان لأنه إله، إذا جاز التعبير. ولذلك يظل صحيحا استنادا الى العقل، أن المدينة لها الأسبقية على الفرد الواحد.

لقد حاول (توما الأكويني) أن يكون قريبا من فكر (أرسطو المنقول له عربياً) لكنه كان (لاهوتياً) فابتعد عنه في النهاية، وأرجع علاقات الناس مع بعضهم ضمن منظمات المجتمع المدني يجب أن يكون مشروطاً برضا الله وتوفيقه.
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس