الموضوع: ساعة عمل
عرض مشاركة مفردة
غير مقروءة 14-04-2006, 02:49 PM   #20
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

سويلم الراعي

الرعاة في التاريخ من أقدم المحترفين مهنيا ، ومهنتهم تلك قد أثرت في تكوين الحياة الراهنة ، حيث كانوا يشكلون مجسات لمجتمعاتهم ، ترشدهم للتحرك والتنقل من مكان لمكان ، أقوام في أمكنة ليست لها وتصارعت مع أهلها الأصليين ، فأنهت وجودهم أو انصهرت بهم حتى آل الوضع الاجتماعي لما نحن عليه الآن ..

لم تكن ملكيات الأراضي معترف بها سابقا ، فحيث تستطيع الوصول بقطعان أغنامك أو إبلك ، وتحمي وصولك هذا بقوتك أو قوة جماعتك ( قومك ) .. فيصبح عندها هذا الوضع مقبولا وغير قابل للنقاش ..

حافظ الرعاة العرب على بعض الصفات التي تهم الباحثين ، فهم حذرون بطبعهم قليلو الكلام ، لا يدخلوا مفردات جديدة على لغتهم ، فلذلك كانت اللغة العربية عندهم ، هي الأنقى والأكثر مطابقة لصفاتها . وهذا ما يفسر كيف أن الهيثم بن نصر بن سيار ، والخليل بن أحمد الفراهيدي ، عندما خافوا على التلحين في العربية ، ذهبوا الى البادية ليدونوا المفردات العربية بقواميس لا زالت اليوم هي المراجع التي نعود لها عند الحاجة ..

كما أن الرعاة ، لو أراد أحد أن يصنف مزاجهم هل هو عدواني أو متسامح لرجح الحالة الأولى على الثانية ، إذ لم يكن أحدهم يرغب بوجود من ينافسه على المرعى القليل بنباتاته الكافية و ماء الشرب ..

كما أنهم لا يجيبون من يسألهم بوضوح ، بل يتهربون من الإجابة ، توجسا وحذرا من دوافع السؤال ، فإجاباتهم الاعتيادية ، هي أنهم لا يعلمون جواب السؤال الذي وجه إليهم ، وإن اضطروا للإجابة ، فإن الإجابة لا تسعف السائل ، بل سيحتاج أن يسأل بعد الراعي الأول مجموعة من الرعاة ، فيدرك بمرحلة من المراحل أنه في متاهة ، وكأن كل راعي آخر يشكل خط دفاع ثاني بالنسبة لمن وجه إليه سؤالا سابقا ..

بعد أن تشكلت الدول الحديثة ، وأصبح للأرض من يملكها ، وحمت القوانين الراهنة حقوق المالكين ، كان على الرعاة أن ينتقلوا الى الأراضي الميرية (التي تملكها الدولة ) .. أو عليهم أن يتكيفوا مع الوضع الجديد بنمطية جديدة من التحايل على تلك الأعراف و القوانين ..

ولما كانت الأراضي التي تحيط بالقرى والمدن ، هي أكثر خصوبة من غيرها من الأراضي الأخرى ، فكان على الرعاة والذين هم أصلا يرعون لملاك قد يكونوا من سكان تلك المدن والقرى ..

كانت لغة الرعاة وخبراتهم تتركز في كيفية إدارة قطعانهم ، وكان القطيع وأفراده يشكلون صحبة دائمة للراعي ، فكان يميز كل شاة أو كبش من بين عدة مئات ، ويفتقد الناقص منها ، نتيجة لتلك المعرفة الحثيثة ، وكان يسمي كل واحدة منها و يجد ما يميزها عن غيرها ، فيجد صفة بالقرون خاصة ، ولون الوجه ، وتحدب الأنف الخ ..

كما كان على خبرة كافية ، في تربية (المرياع ) وهو خروف تمت رعايته منذ الصغر ، و يشترط بأن تكون أمه معروفة بجودتها ، فلذلك تمت صياغة المثل القائل ( ابن الخوثة ما يصير مرياع ) .. وقد ينسحب هذا المثل على قيادات المجتمع .. حيث أن ( الخوثة هي الهبلة ) .. كان المرياع و أحيانا بالقطعان الكبيرة تجد مجموعة من ( المراييع ) .. تزين بألوان معظمها من مشتقات اللون الأحمر ، انطلاقا من معرفة أن الحيوانات لا ترى سوى اللون الأحمر ، أما باقي الألوان فيكون ( رمادي ) .. ويضع في رقبة المرياع ، جرسا يسمى (كركاعة ) . ليعلم القطيع عن تحرك المرياع الذي يكون على مقربة كبيرة من الراعي وحماره في المقدمة ..

وكان الراعي على معرفة بتربية الجراء (صغار الكلاب ) .. فكان يخضعه لتجارب قاسية تتناسب مع فداحة المهمة التي يقوم بها .. و أحيانا يقطش أذانه أو يقطع جزءا من ذيله ، وللرعاة مبررات وجيهة في ذلك ..

كان سويلم يضع في خرج حماره ، كل ما يلزم لرحلته التي ، فبعض أرغفة الخبز وقليلا من الشاي والسكر ، وإبريق قاتم اللون وبعض المواد القليلة الأخرى ..

أما اللغة التي كان يستخدمها سويلم لإدارة الحيوانات ، فهي مجموعة من الأصوات ودون كلام مفهوم ، كالتي تستخدمها قبائل بدائية جدا ، قسم يخرج من أسفل الحلق ، وقسم من خلال ضغط الشفتين وأحيانا يستعين ببعض أصابعه لإخراج تحذيره لبعض الشياه المتخلفة أو المتمردة على السير ..

كان سويلم ، يرعى في الأراضي التي لا يزرعها أصحابها ، ويبدأ رعيه من بداية الخريف ، فاذا سقط المطر مبكرا ، قامت الحيوانات باستلال البادرات التي تنمو مبكرا ، وحيث أن قوانين الرعي التي كانت تحمى سابقا من مهنة انقرضت تماما وهي مهنة ( المخضر ) الذي كان يمنع الرعاة من الاقتراب من الأراضي المتروكة من دون زراعة ، حتى تزهر نباتاتها و تحفظ جنس النبات ، فقد تدهورت أصناف نباتات المراعي ، واختفى المستساغ منها ..

يلجأ ملاك قطعان الأغنام لشراء حقول القمح أو الشعير ، التي لا يتأمل أصحابها من مردود يعادل كلف الحصاد .. فيرعى سويلم بها حتى أواخر الصيف وعندما تصبح الأراضي جرداء لا عشب ولا قش ولا غيره .. فتبقى عادة الرعي وكأنها فقط لتدريب الأغنام ، حتى لا تنسى عادة المشي !

وضع سويلم إبريق الشاي المسود على نار .. وأخرج ( مزمارا ) وعزف ألحانا مختلفة ، تكاد تكون ثلاث جمل موسيقية بدائية .. وبقي يعزف ، قرب النافذة لأكثر من ساعة ، وعندما تضايق صاحب مكتب قريب ، بني على منشأة بعيدة في البراري .. دفع الفضول صاحب المكتب للذهاب الى سويلم ..

تدري يا سويلم : ما أقل عقل منك إلا هذا المرياع ، الذي يطرق مستمعا اليك ، ألا تمل من هذا العزف ، والضحك على هذا القطيع الأبله ، وكأنك تتجول به في إقليم ( السافانا ) ..

ضحك سويلم ، واستفسر عن ( السافانا ) .. ثم قال : هذه حياتنا ، أستاذ منذ الأزل ، فليس لنا سبيل غير ذلك ، ناوله الأستاذ لفافة تبغ ، كمصالحة ضمنية وودعه معترفا بوجاهة قول سويلم ..
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس