عرض مشاركة مفردة
غير مقروءة 24-01-2007, 03:19 PM   #64
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

( 24 )

وضع العالم الروسي (بافلوف ) نظريته بالاستجابة الشرطية، حيث اكتشف من خلال تجاربه على الكلاب أنه إذا أحضر قطعة لحم للكلب ولوَح بها فإن لعاب الكلب يسيل، قبل أن يحصل على القطعة. وعندما أضاف بافلوف رنين جرس قبل إحضار قطعة اللحم، وكرر ذلك الترتيب، أصبح لعاب الكلب يسيل عندما يسمع صوت رنين الجرس، ثم أضاف لونا أحمر قبل رن الجرس فصار لعاب الكلب يسيل قبل رنين الجرس وقبل إحضار اللحم، كون تلك الخطوات المتتابعة توصل في النهاية لقطعة اللحم.

استفاد مربو النحل من تلك الأبحاث فوجدوا أن لكل خلية رائحة خاصة، فيكتشف أفراد خلية النحل الدخيل على الخلية من خلال الرائحة. فعندما يريد مربي النحل تغيير ملكة كسلانة وغير منتجة فإنه يلجأ لتطبيق تلك النظرية بتعفير الخلية بالطحين وسحب الملكة المجبرة على الاستقالة ودس ملكة جديدة منتجة، ويغلق باب الخلية ومنافذها بالأعشاب، فما أن ينتهي أفراد الخلية بقرض الأعشاب حتى يتعودوا على الرائحة الجديدة للملكة المعينة الجديدة.

عند زيارة أحدنا لبيت غير بيته، فإنه سينجذب لرائحة البيت الذي يزوره، إن كان يكن لصاحبه ودا، وسيحب رائحته، وإن كان لا يكن ودا لصاحب البيت فإن الروائح المنبعثة من البيت ستكون منفرة للزائر ويحس بسوئها ..

من أراد الكلام عن الصور يمكن أن يستخدم صورا من (كاميرا) ويرفقها لما يكتبه ومن أراد الحديث عن أصوات مقرئين أو مطربين يستطيع إرفاق تسجيل بما يتحدث عنه .. في حالة الروائح يجد من يريد الكلام عنها صعوبة بالغة لأن التقنيات الحديثة لم تتوصل بعد الى مثل ذلك الاختراع .. لكن اعتماد بعض الروائح المتعارف عليها عند كل الناس سيقرب الوصف بعض الشيء.


في صناعة النسيج، يكون هناك (نول) تستند إليه الخيوط الملونة لتعطي في النهاية ثوبا من القماش له مواصفاته الخاصة التي تحمل في النهاية اسما، فهذه سجادة وهذه عباءة وهذا قفطان وكل نوع قماش له علامته المسجلة التي يسهل على معظم الناس التعرف عليها ..

في العتيقة الروائح التي تشكل (نول) أو أساس للصبغة العامة المتعلقة بالروائح تستمد خصائصها من الأرض والحيوانات المتعايشة مع السكان. فإن دخلت الى حظيرة تربض بها بقرة والدة حديثا، فإن الرطوبة التي تحيط بالبقرة، تكون مزيجا من إدرار حليب انساب بفعل ضغط جنب البقرة على ضرعها، أو انسكب نتيجة ضعف الرؤية داخل الحظيرة، من يد من تحلب. ويمتزج مع الحليب أنفاس البقرة المجترة لحشائش مضغت على عجل ودُفعت إلى إحدى أوعية كرش البقرة ثم تتم استعادتها بين لحظة ولحظة ببطء لتمضغ ثانية فأثناء سحقها تختلط مع إفرازات بكتيريا الكرش (غير الضارة) لتصعد مع الأنفاس وتلتصق على ثوب (الحلابة) أو على جدران الحظيرة، لتمتزج مع (الأمونيا) المتصاعدة من بول البقرة أو برازها..

فإن فاض من تلك الروائح من داخل الحظيرة، فإنه سيتحد مع دخان ينبعث من مواقد (الخبيز) أو (الطبخ) ..وسيطيب بعطر التبن الذي يدفن في أماكن لتخزينه فإن تم تحريك التبن المرصوص فإنه يطلق عطرا شهيا خصوصا إذا كان التبن حديثا .. كل تلك الروائح وغيرها تتسلل الى الغرف والأزقة و حتى شعيرات الجسم وما يستره من ملابس ..

عندما يطبخ أحد البيوت طعاما ليس اعتياديا، فإن أمره سينفضح بواسطة الرائحة الشاذة على الروائح الاعتيادية، وليس باستطاعة أفراد البيت أن ينكروا ما عملوا فيما لو فاتحهم أحد بذلك. لذا فإن عليهم أن يطعموا كل ما يمكن أن تصل له الرائحة، تجنبا لمعاتبته، فغدت المسافات التي تصلها الرائحة معروفة بالفطرة عند أهل العتيقة، وقد تكون تلك المسافة هي الجار السابع، لذلك يقال أن الدين وصَى بسابع جار ..

في الحقول الروائح لها سمة مختلفة، لكنها لا تتنافر مع روائح القرية، فرائحة (الدحنون) و (النفل) و (الأقحوان) و(المقرة) وحتى ما لم يعرف من أسماء نباتات برية كثيرة تمتزج مع بعض في أواخر الشتاء وينمو(زوالها) وجفافها متناغما مع (أجندة) الروائح السنوية .. وقد تجد في بعض الأحيان أزهارا من (السوسن البري) و(النرجس) ترسل وميضا من الروائح، بين فترة وأخرى، فتكافئ الصابرات والصابرين على المشي أو من يركبون دوابهم وهم منطلقين لشأن يهم حياتهم، فيكونون بمجيئهم ومرواحهم كأنهم في نزهة، وإن لم يكونوا قد صنفوها كذلك ..

الحيوانات المتعايشة مع سكان العتيقة كانت تحمل سمة اعتمادها على الروائح، ولا أحد يستطيع الزعم بأنه يقدر أن يرتب من الذي اكتسب مِن الآخر تلك المهارة.. فما أن يتم فقس بعض صغار (الكتاكيت) أو أفراخ (الحمام) حتى تتجمع القطط، وما أن يضع الناس موائدهم، حتى تطل على مكان تناول الطعام رؤوس الدجاج والقطط والكلاب، رغم تنافرها في سلوكها، إلا أنها تتهادن في تلك اللحظات ..

وإن كان هناك من يركب حمارا أو فحلا من الخيل، ولم يكن ينتبه فقد ينزلق من على رقبة الفحل الى الأرض، إثر توقف مفاجئ للفحل قرب قطعة من روث (أنثى) .. فيشمها بعمق، ويرفع رأسه الى السماء مغمضا إحدى عينيه، ومكشرا عن أسنانه، ويبقى لحظات في هذا الوضع حتى يصل لجهازه العصبي المركزي نتيجة تحليل الفحص، فإن كانت الأنثى في حالة (عِشار) فإنه يمضي غير أسِفا، وإن كانت الأنثى (بِكر) فإنه يعاود الفحص والشم، حتى ينهره من يركبه ..
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس