الموضوع: ساعة عمل
عرض مشاركة مفردة
غير مقروءة 10-04-2006, 04:18 PM   #19
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

عايد السائق :

لقد كانت مهنة قيادة السيارات ، مهنة كما هي في كثير من المهن المستحدثة على هامش التطور الحضاري ، فمهن تزول و مهن تظهر ، لم يعد الجلالاتي (صانع جلال الدواب ) أو الدليل ( الذي كان يدل المسافرين بالصحراء ) موجودين بنفس القدر الذي كانوا فيه سابقا .. كما أن مهنا مثل قيادة السيارات ، وان ظهرت في القرن الماضي كمهنة لها أهميتها ، أصبحت اليوم من المهارات الضرورية ، أو العادات ، كعادة التدخين .. فلم تعد بنفس القوة التي ظهرت بها وقت بدايات ظهورها ..

وكان من يتقدم بطلب للعمل سواء في القطاع العام أو القطاعات الأخرى ، يلقى قبولا لطلبه .. أما في هذه الأيام ، فإن تلك المهنة لم تعد مصنفة كمهنة بل كوصف لمن يكلف بها من قبل غيره أو حتى هو يكلف نفسه بها ، كضرورة عملية ، فاقتناء ( سيارة أجرة ) يحتم أن يكون على قيادتها شخص يستطيع القيادة ، و أحيانا يكون هذا الشخص مهندسا أو معلما أو عسكريا متقاعدا ، أو أي صفة مهنية أخرى ، لكنه أضاف تلك الصفة المهنية الجديدة على نفسه ، لضرورات المعيشة أو لاستثمار بعض المال في قطاع النقل ..

كان بعض ممتهني تلك المهنة ، لا ينظرون لها على أنها مصدر رزق فقط ، بل كان ينظرون لها كعادة ، أو صفة محببة لهم ، كما هي صفة أو خاصية الطيران عند الطيور ، فكما يتضايق الطير عندما يوضع في قفص ، أو يعيقه ما يعيقه عن الطيران ، فإن سواق السيارات يصبحون بهذا العشق لمهنتهم ، وخصوصا من يقودوا سيارات الأجرة ( التاكسي ) .. وخصوصا من يتقدم بهم العمر قليلا ، فعليهم أن يتصرفوا في حياتهم بكياسة و رزانة تتناسب مع أعمارهم ، لكنهم في مهنتهم ، يشرعنوا الصبابة و دغدغة بعض مشاعرهم التي عليهم أن يدربوها لتكون عاقلة !
كانوا يستمتعون بحديث يستمعون اليه بين عشيقين يركبان مع أحدهم ، أو يسرقون نظرة من المرآة التي يعدلون وضعها ، ليقنصوا نظرة ممن يجلسن في المقعد الخلفي .. وكان يطربهم صوت ضحكة عفوية من فتاة بسن بناتهم ، لكن لا أحد يراجعهم بما يقترفون من ذنوب هم لا يصنفونها كذلك !

كانت مهنتهم تمدهم بثقافة من نوع خاص ، آتية بالمشافهة ، من خلال ما يشاهدون وما يسمعون ، فأحيانا تسرهم مصطلحات بعض المثقفين الذي نقلوهم من مكان لمكان ، فيحاولوا استعمالها في أحاديثهم مع زملائهم أو أسرهم ، وأحيانا يسربون ما رأوا من مشاهد رأوها في مهنتهم .. كل ذلك كان يعطيهم شعورا بالتفوق في شيء ما !

كان عايد من ذلك النوع من السواق ، لم يكن بحاجة ماسة لما يحصل عليه من أجرة ، فكان ينتقي ركابه أو من يطلبوا الركوب معه ، ليشبع فضوله المستتر ، فلم يختلف على قيمة الأجرة مع من يرغب في نقلهم ..

عندما ركب الرجل بجانبه وكان ملثما ، عندما فاوضه بسرعة على الركوب ، فك لثمته ، في حين جلست المرأة التي كانت مع الملثم في المقعد الخلفي ، طرق عايد بأصبعه طرقة خفيفة على المرآة التي ثبتت في وسط السيارة الأمامي العلوي ، عله يفك لغز زبونه .. وقد انتبه الرجل الذي يجلس بجانبه ، ولكنه لم يكن في حالة تبرر اعتراضه ..فشاغله بالطريق الذي احتاج الى ساعة من الزمن حتى يصلوا الى وجهتهم ، حتى لا يجد عايد فرصة كافية في التمعن بمن تجلس بالخلف ..

كان الرجل يتحدث بمواضيع متعددة وغير مترابطة ، وعايد يستمع ويهمهم ، ولم يظهر ثنية الذهب على سنه طيلة حديث الرجل ..

كان عايد يتساءل ، بينه وبين نفسه ، هل تلك المرأة المكحلة ، والتي تضع عصبة زاهية على رأسها ، هل تكون ابنة هذا الرجل ؟ .. ثم يجيب نفسه : لا ، فلو كانت ابنته لما صعدا في سيارة أجرة ، بل لركبا في الحافلات ، حتى لو طال زمن الوصول الى أربعة أضعاف وصول سيارته !

ربما تكون زوجة له ، وكانت (زعلانة) عند أهلها منذ مدة ، وهاهي تعود معه ، فأراد أن يكرمها بالركوب بسيارة ، أو لسرعة الوصول !

كان الطريق الذي سلكه عايد ، لم يشاهد به بالذهاب أو الإياب أي سيارة أخرى ومن أي نوع .. فقد أشار الرجل الى اتباع طريق مختصر ، علمه البدوي بخبراته السابقة .. كان طريقا ضيقا ليس به من الطرقات الا الاسم ، لم يكن ترابيا ، ولم يكن معبدا بشكل جيد ، لكنه كان خاليا من الحفر ، ولم يكن طريقا موحشا وسيئا على أي حال ..

كان يمر من جنب بيوت ، هي كالبيوت ، لكنها لم تكن بتلك الفخامة ، ويتراكض أمامه أطفال ، هم كالأطفال بالشكل ، ولكن ملابسهم و ألوان بشرتهم وملامح العافية ، لا توحي أنهم أطفال كالذين يراهم في المدن ..

لمح عايد بين تلك البيوت المتواضعة ، قصرا فخما ، يصلح أن يكون أحد قصور الأحياء الفخمة ، في العاصمة ، أقطب جبينه ، وتساءل : هل يكون هذا لشخص ، رفض أحدهم أن يعطيه ابنته عندما كان مغمورا ، فأراد أن يقهر من رفضه ليبقى هذا القصر الذي بناه بعد أن اغتنى فجأة ، شاهدا على خطأ قراره!

برز كلب ضئيل الحجم ، ليلحق بسيارة عايد ، لكن دون جدية ، بل كان يحاول أن يعلن عن نفسه بطريقة مجانية أنه سيد تلك البقعة اللا محددة !

نزل الرجل والمرأة قرب القصر .. ولم يحل عايد لغزهما !
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس